بالصدفة وحدها جاء اختياري لرواية "المقامر" بعد آخر قراءاتي لدوستويفسكي "ذكريات من منزل الأموات".
ولوجه الحق، فإني قبل الشروع في قراءة "المقامر"، كنت لا أزال أجهل أوجه التشابه العديدة والفريدة بين الروايتين، رغم أن دوستويفسكي نفسه كان قد أشار إلى بعضها:
"ولئن اجتذب كتابي 'منزل الأموات' انتباه الناس من حيث هو تصوير لسجناء لم يسبق لأحد أن وصفهم قبل ذلك عيانًا، فلا شك أن هذه القصة سوف تجتذب هي أيضًا انتباه الناس، من حيث تصوير مفصّل جدًّا للروليت بالعيان... هي وصف لنوع من الجحيم يشبه جحيم المعتقل."
من هنا، يستنتج القارئ وجه شبه آخر بين "الجحيمين"، حيث يشعر بوضوح أنهما يرويان طرفًا من قصة حياة دوستويفسكي نفسه.
تشعر أن جميع الأحاسيس والأفكار العجيبة والغريبة والخارقة في الرواية إنما تتراقص أولًا وأخيرًا حول موقعين جغرافيين:
قمة جبل شلانغنبرغر والطريق المحاط بأشجار الكستناء.
من قمة ذلك الجبل، يُخيّل للقارئ أن ألكسي إيفانوفيتش قد ألقى بنفسه فعلًا، استجابةً لنزوات باولين، وأن أحداث الرواية تنحصر بين القمة والوادي أثناء هذا السقوط الحر.
"أما عن قصة جبل شلانغنبرغر، فأقسم بشرفي، حتى هذه اللحظة، لكنت ألقيت بنفسي إلى الأسفل لو أمرتني بذلك، ولفعلت حتى لو طلبته مني مازجةً، محتقرة، باصقة عليّ.
قالت:
– لا، لماذا؟ إنني أُصدقك.
ولكنها قالت ذلك بتلك اللهجة التي تجيد وحدها استعمالها، بلهجةٍ تبلغ من الاحتقار والمكر والتعالي ما كان يمكن أن يدفعني إلى قتلها في تلك اللحظة."
إذن، هي تعقيدات وتناقضات النفس البشرية، إذ يضعها دوستويفسكي مجرّدة أمام قارئه، بنفاذه السيكولوجي المعتاد إلى أعماق هذه النفس وأغوارها.
أما الطريق الذي تصطف على جانبيه أشجار الكستناء، فيشكّل -في نظري- الحدّ الفاصل بين سلوكين منفصلين ومتميّزين لكل شخصية من شخصيات الرواية، في تجلٍّ لغموض الإنسان أمام ذاته.
"حين قررت أن أحكي قصة حبي كلّها، فوجئت لحظة شرعت في رواية القصة، بأنني أكاد أعجز عن أن أذكر أي شيء دقيق، واضح، محدّد عن صلاتي بها. بالعكس: كان كل شيء أقرب إلى الخيال، غريبًا، مهلهلًا، مفككًا، لا يُشبه شيئًا، ولا يُشبهه شيء."
"ما أغرب هذه الحالة النفسية التي أنا فيها: ليس في جيبي إلا عشرون فرديريكا، وأنا بعيد عن وطني، بلا مركز، بلا موارد، بلا أمل، بلا مشاريع، إلخ...
ثم لا يقلقني ذلك!
ولولا أن باولين ماثلة في ذهني، لكنت استسلمت استسلامًا تامًّا لهذا الاهتمام بالخاتمة القريبة التي ستختتم بها هذه المهزلة، ولضحكت ملء صدري."
كنت قد قرأت قولًا لنيتشه مفاده أن قراءته لدوستويفسكي كانت له عونًا على فهم نفسه بشكل أفضل.
وهنا يتساءل المرء بعد قراءة "المقامر":
هل فهم دوستويفسكي نفسه؟
ذلك الأكثر حذقًا بين الواقفين أمام غموض أنفسهم؟
ثم ماذا؟
هذه أمور... لا يفهم المرء منها شيئًا!