مرسى فاطمة > مراجعات رواية مرسى فاطمة > مراجعة Řåną Əłşedăwy

مرسى فاطمة - حجي جابر
أبلغوني عند توفره

مرسى فاطمة

تأليف (تأليف) 4.2
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

لا أدري حقيقةً كيف أبدأ حديثي عنها .. لديّ الكثير لأقوله والكثير من الاقتباسات التي أودّ مشاركتكم إيّاها .. حسناً، لنبدأ بسلمى .. أم دعوني أقول الوطن؟ كنتُ أشعر بأن سلمى والوطن وجهة واحدة، منكم من قد يرى بأن الرواية ليست أكثر من قصة لحبيبٍ يطارد حبيبته ليقع أخيراً في دائرة كما هي الحياة التي تتكوّن من دوائر ودوائر تتداخل فيما بينها ولا تنتهي، لكني بالحقيقة لم أقرأ هذا الحب فقط أو كما تبدو عليه الرواية، قرأت الوطن، تعرّفتُ على إرتريا، مخيمات اللاجئين في السودان حيث أم أوّاب وقهوتها، الشّفتا وقبائل البدو، ساوا حيثُ بدأتُ أتعلّق بالرواية وبدأت فعلاً بجذب انتباهي، تعرّفت في ساوا على كداني وفلسفته، وبدأت الأحداث تتسارع أكثر، حينها اتّضح كل شيء.

يقول كداني: “لم أكن أعرف معنى أن يكون الحب مجرّداً، أن يأتي وحده دون مبرّرات يستند إليها، أن يكون أول الحكاية وخاتمتها، أن يكون الحدث والراوي والمستمع. لم أكن أعرف أن الحب قضيّة في حد ذاته، وليس بحاجة إلى إحدى تلك القضايا الكبيرة ليصبح مفهوماً ومشروعاً.”

ويكمل كداني أيضاً موجهاً حديثه لبطل الرواية: “منك تعلمتُ كيف أطارد هذا الوطن بحبّ، كيف أحتفظ بإيماني به رغم كل شيء. تعلمتُ أن الوطن الحبيبة، والحبيبة الوطن، وجهان لكل أحلامنا النبيلة.”

يقول حجي جابر على لسان العم بطرس: “لا يترك الواحد منّا وطنه ما لم يقم الوطن بذلك أوّلاً”

وهنا يقول على لسان كارلا: “لا يغادر الأحباب متى وجدنا طريقة أخرى لإبقائهم .. لا يغادر الأحباب أبداً متى ظلّوا كذلك.”

شعرت حينها كيف تتشابه الأوطان والأشخاص وكيف يكون تخلّينا عنهم وتعلّقنا بهم متعلّقاً بنا نحن، كيف تتركنا الأوطان، والناس، مالم نُهيئ لهم الطريق، وكيف نقوم نحنُ بتركهم مالم يقوموا بذلك أوّلاً! كيف نغادرهم متى هيئوا لنا طريق الرحيل وكيف يقوموا بمغادرتنا ما لم نحاول المحافظة عليهم وإبقائهم بالقرب منّا.

في اللحظة التي يقترب فيها البطل من السودان، نحو مخيّمات اللاجئين، بعيداً عن إرتريا، يتحدّث هنا حجي جابر عن الوطن، كما لم يسبق لي أن قرأتُ عنه بهذه الصورة:

“كانتْ لحظة مربكة أن يكون خلاصنا حين نعطي ظهورنا للوطن، حين نهرب منه بكل ما نملك من خوف وأمل وشكّ ويقين.

تذكرتُ مقولة كداني حين تملكه اليأس ذات مرة:

” الوطن كذبة بيضاء يروّجُ لها البعض دون شعور بالذنب، ويتلقفها آخرون دون شعور بالخديعة”.

اقترب السودان أكثر، فبدأتْ إرتريا في الابتعاد. أنانيّة هي الأوطان، لا يأتي وطن إلا حين يغادر الآخر.

أجزم أن هؤلاء الذين يركضون إلى جواري، وبقدر رغبتهم في الإفلات من الوطن يشعرون بالألم. بقدر حرصهم على الحياة خارجه، يفزعهم أن يموت يوماً بداخلهم، أو يتسرب بهدوء من بين ضلوعهم قبل أن يتمكنوا من دسّه في آخر مخابئ الروح.

أجزم أن هؤلاء يغادرون إرتريا والخيبة معلّقة بجباههم كأجراس كنائس الأحد، لا تكاد تهدأ، حتى تُعلن عن نفسها من جديد.

أجزم أن الوطن الذي ضاق بناسه إلى هذا الحد، صار وسيعاً جداً بالأوجاع.

أجزم أنهم وفي هذا الوقت بالذات، يملأهم القلق في أن يعبروا إلى السودان بذاكرة متخمة بأيام الصبا في الشوارع الخلفية، وقهوة الجدّات في المساءات المكتظة بالحكايات. أجزم أنهم يخافون ذاكرتهم أكثر من أي شيء آخر، يخافون منها وعليها، بعد أن أصبحتْ آخر خط دفاع في معركة غير متكافئة.

كنا نركض بكل قوتنا، نتفادى شجيرات “المرخ” التي يُكثر القرويون من زراعتها كغذاء لمواشيهم، ومصدات أمام زحف الرمال على قراهم. خطر لي أننا أحوج ما نكون إلى أشجار مرخ أخرى توقف زحفنا خارج الوطن، وتعمل كمصدات تقي أحلامنا وأمانينا وحتى ذاكرتنا من الضياع.”

وأنا أقرأ الرواية، كنتُ أشعر بالوجع، بالحزن يطفح، كنت أشعر بمرارة ما يتجرّعه أبطالها، لا أنصحكم بقراءتها إلا إن كنتم في حالة مشابهة، قد تنتقل إليكم بعضُ أوجاعها، لكننا كنا نتشارك الوجع، كلانا يفهمُ ماهيّته وطعمه ولونه، كنا نواسي بعضنا بأوجاعنا، فكانت قريبة منّي ولم نختلف أبداً.

تقول كارلا: “لا أعرف لماذا كلنا نريد عشقاً عظيماً يفوق طاقتنا، ولا نقنع بحب عادي حتى لو كان كافياً؟ ألا توجد طريقة أخرى لنبدو أكثر فرادة؟”

يتجدّد الوجع بين صفحات الرواية، كلما شعرت بأنه قارب على الانتهاء .. تراه ماثلاً أمامك من جديد:

“ما أقسى أن ينكأ الجرح نفسه قبيل التئامه، أن يتلذّذ بالتمدّد في كل الاتّجاهات كمن أضاع بوصلة شفائه، أن يُعرف أوّله، دون أن يكون له آخر.

ما أقسى أن يفقد الشخص الرغبة في الالتفات خلفه، في المرور على هزائمه وقد أفرغها الوقت من الأسى، وأفقدها النسيان مرارتها الأولى. وحدهم المنتصرون يفعلون ذلك، أمّا البقيّة فتلتصق الخيبات بظهورهم كوشم لا يبتعد مهما أوغلوا في الهروب إلى الأمام.

وما أقسى ألّا أملك خياراً آخر.

ما أقسى أن أفتقد الإحساس بالذنب، وحدها الشفقة أتسربل بها من رأسي إلى أخمص وجعي. أن تذنب يعني أن تجد مساراً للرجعة، للأوبة بقلب أرحب، وروح لا يشغلها الطين، لكنك حين لا تفعل تفقد آخر فرصك في اكتشاف طريق أخرى توصلك إليك.

إلى سلمى.”

في نهاية فصول الرواية، حين تقترب الدائرة من الاكتمال، حين تعود لنقطة البدء كما لو لاشيء حصل، تستشعر هنا معنى الفقد، معنى أن تتجرّع الألم كله من جديد، يقول:

” كم هو غريب أن تتبدل غايتنا من الشيء إلى نقيضه. أن نتخلى عن مخاوفنا لصالح مخاوف أخرى. كم هو غريب أن ندفع الثمن مرتين رغماً عنّا؛ مرّه للحصول على الشيء، و أخرى للتخلص منه. “

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق