فرانكشتاين في بغداد > مراجعات رواية فرانكشتاين في بغداد > مراجعة محمد الجدّاوي

فرانكشتاين في بغداد - أحمد سعداوي
أبلغوني عند توفره

فرانكشتاين في بغداد

تأليف (تأليف) 3.5
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

لم يكن ليولد، في أي حالٍ من الأحوال، في ظروف عادية، ولم يكن ليسطع ضوؤه الظلامي المشوب بلون أحمر قان في أوضاع اعتيادية..

لقد اجتمعت الظروف وتناسبت الأوضاع في أمثل صورة وعلى أكمل وجه ممكنين، ولكن ما فرصة حدوث هذا؟

إن كنا نتحدث عن مكان أمسى القتل فيه كشرب الماء، أو كما يقتل أحدنا حشرة دون أن يطرف له جفن.. إن كنا نتحدث عن مكان طغى الظلم فيه لدرجة تجعل المرء يقعد عن طلب حقه.. يتنازل.. يهرب.. ينجو بحياته.. إن كنا نتحدث عن مكان كهذا، فأجل، فرصة توافق الظروف والأوضاع ليست سيئة على الإطلاق.

،

لقد ولِدَ "الذي لا اسم له"..

ولد ليكون تجسيداً لتخبط الناس ومعاناتهم، ليمثل صورة المقاومة الحقّة التي يطمحون ويسعون لها، حتى وإن لم يعوا ذلك ولم يدركوه كما يجب.

،

ينطلق السرد وتبدأ الرواية في عام 2005 في بغداد..

لقد كان صباحاً كأي صباح، الأبواب تنفتح، الشوارع تتحرك، الأرصفة تسير..

الكل متجه لوجهته الخاصة. كل ما تطلبه الأمر هو رجل واحد فقط.. أمر جعل هذا الصباح لا يشبه أي صباح.. أو ربما علي قول: أمر جعل هذا الصباح يشبه صباحاً لا يمكن أن يعتاد المرء عليه مهما تكرر..

رجل واحد فقط.. هذا كل ما تطلبه الأمر.

اقترب بسيارته نحو جموعٍ بريئة، وخلال ثوانٍ بسيطة، فجّر نفسه.. وانتهى الأمر.. لم يعد الصباح صباحاً..

لم يعد هنالك اعتبار لأي شيء في الحقيقة!

هنالك شخص ما، يقف وهو يدخن، حاملاً نظرةَ ازدراء أو عدم مبالاة، للحدث المروع الذي وقع للتو. لاحظ شيئاً قبض انتباهه بين الأشلاء، فانطلق بخفة نحوه ودسّه في كيسه وانساب بين الضوضاء دون أن ينتبه له أحد.

لقد كانت القطعة الأخيرة لأكمال مبتغاه المجهول.. لقد كان أنفاً بشرياً !

بهذا الأنف اكتمل مشروع "هادي العتّاك"، فقد كان يجمع الأجزاء البشرية للضحايا هنا وهناك حتى أكمل صنع جسدٍ بشريٍّ كامل مروّع الهيئة.

هذه هي بداية الشخصية التي تمثل قلب الرواية.. "الذي لا اسم له" أو "الشسمه" كما سمّاه صانعه.

،

كنت قد حضّرت نفسي لقراءة واقع ممزوج بغرائبيّة خوارق عالم الخرافات في الرواية، لذلك لم أتفاجأ حينما مررت على الجزء الذي قدّم فيه الكاتب تصوراً لما بعد الموت، وفيه انتقلت روح أحد الضحايا إلى "الشسمه" ليتحول من جسد ميت إلى جسم حي، ولكن ما أزعجني هنا هو تجرأ الكاتب على بعض الغيبيّات. (وكذلك انزعجت من سرده لبعض الأحداث الخادشة للحياء في الفصول اللاحقة) بعد سريان الروح في جسد "الشسمه"، بدأت المهمة: الاقتصاص للضحايا من المجرمين الذين قتلوا أجزاءه التي يتكون منها.

واحداً تلو الآخر.. لن يتوقف حتى ينتهي.. سينتقم منهم جميعاً.

قد تحدث جرائم لا يوفّي القانون الجزاء العادل لمرتكبيها ، بل واحياناً لا يُعاقب فاعلوها على الإطلاق. ليس بالضرورة أن يرتكب المرء الجريمة حرفيّاً حتى يسمى مجرماً؛ وفي حالاتٍ كهذه، ينسلّ البعض من فوق القانون، فيكون فوقه، ولا تعود جملة "لا أحد فوق القانون" صالحه للاستعمال في حالته. مثالٌ من الرواية، بائعو الأسلحة الجشعين، الذين يبيعون الأسلحة لكل الأطراف المتقاتلة سواءً كان الطرف الذي يتعامل معهم على حق أو باطل، "إنهم يريدون الأسلحة، فلنعطهم الأسلحة إذن." هذا هو لسان حالهم. كيف يختلف هؤلاء عن المجرمين؟! إنهم يعينون على القتل.. يقتلون مثلهم ولكن بطريقة غير مباشرة. ليست الأسلحة ما يبيعون، بل الموت! أراد الكاتب من "الشسمه" أن يكون المطبق للعدالة في مواطن الظلم التي لم تخمد نيرانها بفعل القانون.. أرده أن يكون المطبق لعدالة الشارع.

على الرغم من اختلاف وجهات نظرهم حول "الشسمه"، فإن عدة أشخاص وقفوا بجانبه بعد أن رأوا فيه ما يبحثون عنه. المجموعة الصغيرة التي التفت حوله وشكلت فريقه كانت غريبة حقاً. الكل لديه وجهة نظر تجعله يأخذ بيده ويساعده في مهمته الجليلة السوداء. لدينا: "الساحر"، الذي كان يعمل مع النظام السابق في فريق سحرة، على طرد "الأمريكان"، ولكنه فشل في مهمته وتعرض للاضطهاد والتشتيت، فرأى في "الشسمه" انتقامه ممن اساؤوا إليه، "السفسطائي"، الذي آمن بـ"الشسمه" ومهمته، لأن الآخرين غير قادرين على الإيمان به وتصديق وجوده، "العدو"، الذي أطلق عليه هذا الاسم لأنه يعمل في جهاز مكافحة الإرهاب، وصل إلى قناعة بأن العدالة التي يبحث عنها تضيع في يد من يحكمون الآن، فكان "الشسمه" طريقة للتحقيق العدالة المنشودة؛ فانضم له، "المجانين الثلاثة": الصغير، الكبير، والأكبر، الذين يرون في "الشسمه" ما لا يراه البقية، فالصغير يرى فيه انموذج للمواطن العراقي الأول، فهو الخلطة المستحيلة المكونة من أجناس مختلفة لم تستطع الحكومة صنع مواطن مثله من قبل. في حين، يرى الكبير فيه الشخص الذي سينشر الدمار ويقترب من افناء البشرية في آخر الزمان؛ لهذا هو يساعده ليسرّع من ظهور المخلّص المنتظر الذي سيقضي عليه. (ربما يقصد المهدي المنتظر أو عيسى عليه السلام). بينما يرى الأكبر أنه المخلّص نفسه!

،

بعد كل ثأر يحققه "الشسمه"، يسقط الجزء المعني بالانتقام من جسمه ويذبل، وكأن سبب بقائه في الدنيا انتهى، الأمر الذي قادني لاستنتاجٍ مبكّر لم يتأخر تأكيده في الصفحات التي تلت. بما أنه يفقد أطرافه بعد كل الانتقام، فهذا يعني أنه سيحتاج لأطراف ضحايا جديدة للمواصلة، وهو ما يعني بدوره المزيد من الاقتصاص والثأر، وبالتالي فأن مهمته لن تنتهي ابداً.. سيبقى يدور في هذه الدائرة حتى تنتهي الجريمة، وكيف لها أن تنتهي؟!!

"حتى انتبهت ذات ليلة أنني، على وفق هذه الخطة، أمام قائمة مفتوحة لا تنتهي."

هنا بالذات، بدأ الجانب الآخر من هذه العدالة بالظهور..

لا وجود لعدالة مطلقة في الدنيا.. تلك خاصة بالمحكمة السماويّة يوم العرض.

كان يمتنع في البداية عن أخذ أجزاء بشرية خاصة بالمجرمين، ولكن إثر احتياجه الماس لها، بدأ يسوّغ لنفسه ولم يعد هناك فرق بالنسبة له بين جذاذ البريء والمذنب. المشهد الذي انقلبت فيه فلسفته من أكثر المشاهد المشوقة في الرواية. أصبح يقتل أيّاً كان الذي يراه عندما يحتاج لأطراف ليواصل مهمته. أخذ يسوّغ لنفسه بأن الجميع يحمل نسبة من الجرم، الجميع يمثل مجرما محتملا..

"أقتل المجرم قبل أن يغدو مجرماً"

هذه الجملة أثارت شيئاً ما في نفسي!

لم يعد "الذي لا اسم له" يختلف كثيراً عن الذين ينتقم منهم!!

،

أعجبني أن جميع الشخصيات، في الرواية، كانت مميزة وبارزة ولها دور مؤثر. لم أشعر أن هناك شخصية تم تهميشها أو أخرى لم تنل حقّها من بقعة الضوء. طريقة السرد مميزة كذلك، فالعقدة الواقعة، يشترك في فكّها عدد من الشخصيات، فأحد المشاهد مثلاً، كمشهد الانفجار، نراه من منظور شخصية "هادي العتّاك" ومن ثم المشهد نفسه ولكن من منظور الصحفي "محمود" وبعدها، من منظور شخصية "فرج الدلّال" وتلتقي هذه المنظورات احياناً وتتشابك لتقود لحدث ما.

،

-أريد أن أرى وجهك لو سمحت.

-ما الفائدة من ذلك. إنه يتغير.. ليس لدي وجهٌ ثابت.

هذه العبارة الأخيرة من "الشسمه"، يمكن حملها على عدد من شخصيات الرواية، إذ اتضح في النهاية أن الجميع يشتركون، مع هذا الوحش، في صفة تغير الوجه وتبدل المواقف.. الجميع يشكلون بنسبة ما، جزءاً صغيراً من هذا الكائن الهائم.

،

لربما كانت مهمة "الذي لا اسم له" نبيلة في بادئ امرها، ولكنها لم تلبث أن تنسلخ لتبيّن أن إزالة الجزء العفِن، لا بدَّ أن يطال شيئاً بسيطاً، من الجزء السليم. هل هذا حقاً ما يقتضيه الأمر؟ لعل العالم بحاجة إلى العديد من "الشسمه" لمعرفة ذلك.. أو.. ربما العالم مليءٌ بالفعل بأمثال "الشسمه"!

Facebook Twitter Link .
0 يوافقون
اضف تعليق