هناك مقامرة دائما عندما نلتقط رواية سميكة من على رف المكتبة , مقامرة ان صفحاتها الكثيرة المتتالية تحمل تكرار رتيب او وجهات نظر منسوخة او تهويمات غارقة فى التجريد . لكن العدد الضئيل من المرات التى نكسب فيها مكسب شعورى ثقافي ضخم يكفى لان نكرر التجربة و نعيد رهان بعد الاخر علي ذلك. و نقول هنا ان "عندما بكى نيتشه" مكسب سعيد غير متوقع

رواية تروى فى عالم من "ماذا لو" و تلعب على عنصر احتمالات التاريخ بل و تعيد تشكيله ببطء و بتمعن لصنع نسخة موازية متقنة الصنع غالبا تثرى خيالنا. يقول مؤلفها فى التذييل ان احداثها لم تقع قط رغم صحة شخصياتها فالدكتور جوزيف بريوير لم يقابل فريدريك نيتشه ابدا رغم معاصرتهم و اصدقائهم المشتركين , جمعهم الزمن و لم تجمعهم الصدف

لذا تبدأ الرواية بافتراض واحد ضخم عن "ماذا لو تقابلا؟" ماذا لو حاول نيتشه علاج المه؟ ماذا لو طبق بريوير ما سيتقنه تلميذه فرويد على الفيلسوف الالمانى التعيس؟

و هى كلعبة الشطرنج تكتسب اهميتها من توافقنا على حركة قطعها , فان اقتنع الكاتب و القارئ ان غرفة واحدة يوما ما جمعت بين طبيب فيينا اليهودى و بين قاتل الاله الالمانى. نقول اذا اقتنع القارئ بذلك فهو جاهز لرواية تحمل ايقاع درامى ممتاز و حوار مكتوب يكاد ينطق

********************************

( فى اوقات كهذه, يرى النساء على حقيقتهن: مخلوقات مكافحة,طموحة,تواجه مشاكل ملحة لا نهاية لها فى حياتهن اليومية. و يرى حقيقة صدروهن: كتل من الخلايا الثديية التى تعوم فى برك دهنية , و يعرف ما يسيل منهن , و مشاكل الطمث , و التهاب عرق النسا , و مختلف النتوءات الشاذة و هبوط المثانة و الرحم , و تورم البواسير الزرقاء, و الدوالي.

لكن ثمة اوقات اخرى اوقات من السحر و الافتتان , نساء اضخم من الحياة , تكبر اثداؤهن لتصبح كرات سحرية قوية , تعتريه رغبة جامحة لينصهر فى اجسادهن )

*******************************

كيف تنطق الشخصيات التاريخية الحقيقية فى مواقف درامى تخيلي؟ هل من جملها التاريخية المدونة؟ ام من ذهن مؤلفها و بنات افكاره؟ ربما تلك هى معضلة الرواية الاولي , و نحن ربما لا نعلم كيف كان بريوير ليتحدث لان علمه لا حديثه هو من وصل لنا , لكن نيتشه على الجانب الاخر مدون بدقه هائلة تصعب على المؤلف حرية الحركة و تجبره على الاقتباس المباشر من اعماله ... اما كيف انتصر المؤلف على ذلك فمتعة ادبية خالصة حتى بعد بعض المبالغات و الالعاب الدرامية المكشوفة قرب نهاية الرواية

نيتشه انسان متوحد و هو انسان بكل ما فى الكلمة من معنى متفوق , قبل من اللحظة الاولي مصيره النهائى من التعاسة و الوحدة و العظمة و القوة. بينما بريوير انسان اجتماعى يحمل واجب للاخريين قبل نفسه... فماذا لو حاول كل منهم مساعدة الاخر عبر العلاج

اما اصعب و اجمل ما فى الرواية هو ذلك الحفاظ الدقيق على الايقاع رغم قله الاحداث و محدودية الشخصيات.

*******************************

(مثلك تساءلت كثيراً لماذا تسود المخاوف في الليل. بعد عشرين سنة من هذا التساؤل، بدأت أعتقد الآن أن المخاوف لا تولد من الظلام، بل إنها، شأن النجوم -كامنة دائماً، لكن نور الشمس يحجبها. )

*******************************

و قراء نيتشه يعلمون صعوبه فلسفته اولا و شخصيته ثانيا و مدى التهديد النفسي عندما تقترب من الفيلسوف الالمانى الغاضب لضعفنا اللامنتاهى لكن ربما عمل كهذا يقربنا منه و لنقاط ضعفه الانسانية -التى تخيلها مؤلفنا و نحب ان نصدقها- و ربما يدفعنا لازالة طبقة الغبار الخفيفة من على كتب نيتشه القوية و تدفعنا لاتخاذ الخطوة تلك و لو كانت متأخرة قليلا

دينا نبيل

اغسطس 2016