الساعة الخامسة والعشرون بتعريف قسطنطين جورجيو هي ساعة لم تنقضِ منذ ذلك الوقت إلى الآن، الآن الذي نتحدث فيه عنها. الأعمال المأساوية ليست خيالية بالقدر الكافي؛ لأنها في جزئها الأكبر من الحقيقة صورةٌ عن الواقع، تكاد تطابقه تماماً؛ لكنه في قوة التخيل أعلى قيمة منها، وهذه لا شك مفارقة تحسب للعمل من ناحية المقاربة في الإشارة إلى شيءٍ من التصوير الحسي للواقع، وتحسب للواقع لأنه فاق الخيال في أحداثه وصوره.
الرواية ــ بشكل عامٍ ــ لو لم تكن أداةً معرفية، لما كان في " الساعة الخامسة والعشرون " ــ بشكل خاصٍ كأنموذج ــ معلومات تفصيلية مستوحاة من واقع الحرب العالمية الثانية. وبقاء الإنسان أنى كان أصله، عرقه، جنسه، لعنته، فأر تجارب دائماً لفكرة الجماعة، وعنفها وبربريتها المفرطة رغم الحضارة الفاشية التي ما زالت وهي تتقدم كل يومٍ تأخذ من إنسانيتنا الكثير.
أغلب الظن أن لو كان مؤلف هذه الرواية شرقياً عربياً لوصم بالتخلف خاصةً. ربما لأنه متهم دائماً من قبل بني جلدته على الأخص بأن انطلاقاته دائماً من عقيدته التي يؤمن بها، على خلافٍ أو نقيضه من صحة ممارسته لذلك الاعتقاد. حتى لو كتبها من منظورٍ إنساني كأغلب ما جاء في سرد " جورجيو " لاتهم أيضاً لأنه في الغالب يؤخذ بصفته لا بما يقول، رغم أن " جورجيو " نفسه أشار في قضيته هذه إلى هالةٍ ما تحيط بالمظلوم ولسوف تنصره بعد حين، وإن كان ذلك في الآخرة، وهذا منظور ديني بحت لا يختلط بأي منظار آخر وإن كان إنسانياً إلا لاعتبارات دنيوية على الأرجح.
الحرب، أياً كانت بواعثها، واتجاهاتها، ونتائجها، لا بد أن تترك أثراً ما يشوه الإنسان، المدنية، الطبيعة.
" إيوهان " وأرض الأحلام " أمريكا " الذي ود أن يهاجر إليها من قبل لتحسين أوضاعه، كانت وجهاً آخر للشيطان وأداةً عظيمة للوحشية، وأرضاً تنصب أكبر اهتماماتها على المادة، الروح التي يمتهن الإنسانُ جسده من أجل أن تحظى بفرصة لتستنشق هواءً نقياً يخنقها ذلك النظام الآلي، ينال منها القانون، لا تعبأ بها الحضارة الغربية، فتظل مشوهةً بين الحياة والموت.
يتحدث " جورجيو " بصوتٍ عالٍ عن الإنسان الذي يضيع بين بربرية القوة الشرقية، وقسوة الآلة " النظام " الغربي.
قفزات البناء الروائي زمنياً كانت ملحة في هذا النص الكلاسيكي البديع؛ لأن التحرك الزمني البطيء في مثل موضوعة هذه المأساة يتعارض مع زمن الكلمة الداخلي الذي يمرُّ وحده بطيئاً على القارئ كصفة إيجابية يضيفه هذا الغرض للنص.
الحوار المطول حديثاً إذا لم يكن على صيفة الحكاية والسرد يصنع تشوهاً لا شك فيه؛ لكنه في المجمل لا ينطبق على طبيعة هذه الرواية ونسقها الكلاسيكي؛ لذلك من الطبيعي أن نغفر للحوارات المطولة التي عُرف بها تريان كوروغا، ليكتسب المؤلف من خلاله مساحةً أوسع لإبداء رأيه من خلال ذلك التشابه الوظيفي لهما؛ لكنني لم أستسغ انتقال تلك الصفة الحوارية العميقة لزوجته قبل النهاية. وهذا لا يؤثر على الانطباع الهائل الذي تتركه هذه الرواية في نفس قارئها.
من الأعمال البديعة الجديرة بالقراءة