الفيل الأزرق > مراجعات رواية الفيل الأزرق > مراجعة سيد محمد قطب

الفيل الأزرق - أحمد مراد
تحميل الكتاب

الفيل الأزرق

تأليف (تأليف) 3.9
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
0

ما فعله أحمد مراد في روايته "الفيل الأزرق" هو إنتاج نص يلتقي مع رؤية "ألف ليلة وليلة" لمفهوم الفن القصصي، لا أقول يحاكي "الليالي" أو يعيد إنتاجها، وإنما يفسّر ماهية السرد من خلال استخلاص العلامة المائية التي تراها الذائقة الجمالية الموهوبة المدربة وهي تضع الفكرة المحورية الكامنة في النسق المعرفي لألف ليلة أمام المصباح الكاشف لماهية الجمال الرمزي بخاصة السردي.

ليس بغريب أن تولد "الفيل الأزرق" من قلب الليل، لينطلق فيها الحلم الطويل الممتد بما فيه من كوابيس متصاعدة، لتنتهي الرواية مع جرس المنبه الصباحي، فيصدم الراوي صديقه الذي جلس إليه تاركا قنوات التلفاز المتجاوزة لألف قناة وقناة، والمواقع الإخبارية التي تخطت هذا الرقم بعد أن منحتها الرقمية تكرارا لاستنساخ نفسها وإن تغيرت العلامات الدالة عليها أو اختلفت ألوانها واتجاهاتها الفكرية، لكن الأخبار لا تختلف.

أطن أن الكاتب كان يعي جيدا كون فيله الأزرق يمتطي صهوة الأحلام التي تقذف شخصية (يحيي / شريف / نائل) في دهاليز ألف كابوس وكابوس، هذه الفكرة محورية في الفيل الأزرق، سيلهث القارئ في غابة الليل المظلمة التي لا تسمح لأحد باكتشاف ما يجري فيها إلا مع ظهور الضوء، وفي هذا الفضاء الليلي يمكن أن يحدث كل شيء: انفصام، بل انقسام ثلاثي للشخصية، تبادل المواقع، عنف وجريمة لا يعاقب عليها البطل الذي توحدت معه مشاعر القراء المعاصرين الذين يماثلون البطل "يحيي" الذي تتنازع عليه معطيات عصر العلم في تجليها الحداثي القادر على قراءة شفرات التعبير الخفية غير الشعورية من خلال لغة الجسد، من جهة، والبدائية المتوحشة الكامنة في الجيولوجيا البعيدة التي تتحكم في لا شعوره، من جهة أخرى، وأي شد وجذب يمكن أن يتجلى في كابوس من الحكايات المتفرعة من علاقة ذكر بأنثى في هذه الأجواء التي انسلت من منطق النهار الصارم الواضح لتستيقظ في دهاليز الليل الذي لا ينجلي إلا مع يقظة مشكوك فيها، ليظل الكابوس "متفيلا"ملقيا بظله الأزرق الضخم في المنطقة المتنازع عليها بين المنام واليقظة، وهل نعرف ونحن داخل الكابوس أنه محيط بنا؟ أو هل نتأكد حين نستيقظ أن الكابوس قد انتهى؟

حققت رواية "الفيل الأزرق" لأحمد مراد نجاحا جماهيريا كبيرا، ولا شك أن الباحثين عن متعة القص الخالص الذي يماثل أحلام الليالي ستستحوذ الرواية على إعجابهم، وهؤلاء هم عامة القراء، بينما ستنال الرواية هجوم أنصار الحداثة، أمّا القارئ الذي يرى أن الأدب لابد أن يكون توجيهيا فقد تأخذه الحيرة حين يرى أن الفيل الأزرق ليست سوى حلم، وبالتالي لا يمكن أن يستخلص منها حكمة أو أيديولوجيا بصورة مباشرة.

ومهما مضى بنا تحليل العمل الفني طبقا لقانون الجاذبية السردية الذي نستخلصه من الحوار السردي بين "ألف ليلة وليلة" و"الفيل الأزرق"، سيظل السؤال التقليدي الذي لا يستطيع البحث النقدي أن يتجاوزه لأنه يشغل المتلقي الذي يستحوذ جمال السرد على ذهنه مثلما يشغل المتلقي الذي يستفزه انتشار نص سردي ليصبح ظاهرة في السياق الاجتماعي، هذا السؤال هو هل المؤلف يعي بمواد القانون السردي وهو يقوم بعمله؟ إن الإجابة القاطعة هي لا، فالنص ينتج نفسه وهو بين يدي مبدعه ومثلما يختلف الحدس النائم في صياغة أحلام البشر تحت سماء أضواء النفس الكاشفة حين تغيب أضواء الخارج الزاعقة، تتفاوت قدرات المبدعين في إحكام شعرية تأليف نصوصهم حين تمتطي الموهبة سرج حصان الأحلام في يقظة الذهن التامة للحاق بوحوش النفس الهائمة في دهاليز الوعي المستتر بحيث تتناص رؤية هذه الدراسة مع رؤية مصطفى ناصف، ولاشك أن المبدع الذي يصنع النص بمنتهى الوعي الذي يصل به إلى درجة التحرر من الوعي الزائف، يملك حدس قارئ محترف في الوقت نفسه، وهذا ما يجعله قادرا على ضبط إيقاع النص من داخله وإقامة العلاقات التي تدعم البنية الجمالية وتفتح الأفق أمام المتلقي الافتراضي للعبة اقتناص الدلالات من المحيط السردي.

تستطيع رواية "الفيل الأزرق" أن تمنحنا أفقا لقراءة العلاقة بين الفن والواقع: إن الفن ليس محاكاة، وليس خطابا توجيهيا، إن المتلقي لن يجد في الفن تاريخا أو شخصيات مرجعية، لن يجد ما يسترد به تاريخا مفقودا يمكنه من الاستحواذ على الزمن الماضي فيشعر بالزهو المعرفي، الفن لا يمنحنا هذا الزهو الزائف، بل الفن يؤكد عجزنا عن المعرفة الكاملة ويضع أمامنا فضاء للتخيل وإطلاق ما في أنفسنا لا القبض على ما عجز الآخرون عن امتلاكه.

من هذا المنظور فإن العلاقة بين الفن والواقع هي نفسها العلاقة بين الحلم الذي نؤلفه وحدنا ونراه في عالمنا الداخلي وبين اللحظة الحاضرة التي نعيش فيها مع الآخرين، فالفن هو الأحلام التي تختبئ في جوف الليل، والواقع هو النهار الذي يجمعنا في الأسواق، وكما أن للحلم منطقه الخاص الذي يحطم العلاقات الحاكمة للبشر في الأسواق فإن للفن منطقه الخاص أيضا الذي يحول الواقعة التي تشهدها الأسواق إلى رموز تتناسق بحرية لتصنع من جوف الصمت فضاء جماليا.

إن الفضاء السردي الذي صاغه أحمد مراد في رواية "الفيل الأزرق" يسمح لمتناثرات النهار التاريخي الممتد بين الحاضر بمنجزه العلمي والماضي بسحره وغموضه أن تلتقي في عالم نفسي لشخصية ممزقة ورثت هما تحول إلى كابوس حضاري وضع الشخصية المعاصرة في مستشفى ليلي للأمراض العقلية، الإنسان فيه هو الطبيب والمريض والوسيط الذي يتحرك بينهما، مريض العصر هو الشخصية النهمة للاستهلاك، الشخصية التي تريد أن تمتطي فيل الشهوة والمعرفة والإرادة لتجد نفسها في النهاية ملقاة في حجرة مغلقة بلا مساعد ولا دليل، إن الشخصية العصرية اختلطت عليها معطيات الحياة، تلك الحياة/ المرأة التي وصلت إلى بطلنا وهي مستهلكة تجاوزت براءتها وتجاوزت خبراته، مما جعله يشك في قدراته على الإضافة إليها، وفي إخلاصها له، وفي احتياجها إليه، إنه إنسان زائد عن الحاجة، يعيش عالما داخليا أكثر سطوة وقوة من عالمه الخارجي المنهك الذي يقف به على حافة الجنون، لدرجة تجعل لقاء الشخصية بنفسها داخل بنية الانقسام الشهيرة أمرا قاسيا كما يعبّر عن ذلك أحد عناوين روايات هيرتا موللر "ليتني لم أقابل نفسي اليوم"

يمكن أن يكون الحلم ضربا من الجنون المؤقت الذي تمارس فيه الذات كل ما يوضع في قائمة اللامنطق من سلوك، إنه البنية التي استمد منها الإبداع نسقه، في هذا الفضاء المشترك الذي قد يكون الحلم وقد يكون الفن ترى المخيلة تلك الكائنات التي تعربد في ظلام خزانة النفس، وتعيش مع شخصيات مختلطة تجمع ملمحا من هنا وآخر من هناك، شخصيات أتت من الحاضر ومن أزمنة مندثرة، وأماكن مألوفة قريبة العهد بالرؤية تداخلت في تشكيل متناسق مع أمكنة بعيدة متوارية خلف رصيف الذاكرة، ويتعايش الجميع بقانون جديد تسعى الذات لأن تتعلمه في النوم لعلها تصنع منه شعارا صباحيا يساعدها على تجاوز أزمة لا حل لها، أزمة وقوعها فريسة ما تريد وما يراد بها، أو أزمة حصولها على أدوار استهلكها الآخرون، فوصلت إليها بعد أن فقدت رغبتها فيها، وتمنت لو يعود بها العالم إلى طفولة قديمة تجمعها بأحبة تخصها وحدها لتماثل حياتها طفولة الإنسانية التي لم تشهدها، ويحدث هذا كله في أماكن مغلقة في الظاهر لكن افتتاحها الداخلي بلا حدود، لذلك يختار أحمد مراد في روايته "الفيل الأزرق" فضاء مستشفى الأمراض العقلية، إنه الفضاء الذي يكرس لحضور كل درجات الجنون، ولا مانع أن يكون المريض والطبيب شخصا واحدا تنفتح أعماق هذا على أعماق ذاك وبين الطرفين يولد الوسيط الذي يماثل مذيعا محرضا في برنامج (Talk Show) يؤلب طرفين للقتال كما كان يحدث من الأباطرة مع عبيد العصور القديمة ليسعد المشاهد بأقصى درجات السادية والمازوكية معا، أليس هو أحد الطرفين المتصارعين على مائدة الكلام حيث يأكل الإنسان لحم أخيه، بل إن المشاهد هو الأطراف الثلاثة معا لأنه يدير الحوار الخفي داخل عالمه كما يدير المذيع برنامجه.

هذا الجنون العصري هو الفضاء الذي يتجاوز ما يحدث في أعماق "جيكل وهايد" المنقسمة، إن الذات الآن لم يعد يكفيها الانقسام الثنائي بين خير وشر واضحين تمام الوضوح، إنها الطرف الثالث الذي يستحث الطرفين لتغليب صراع الموت على إرادة الحياة، وإذا كان النهار يمضي بشيء من السلام المؤقت فإن عالم الليل يعد بكابوس يفوق وهج النهار الحارق، كابوس تظهر فيه الحقائق التي لا نحتملها نهارا ولكن بقواعد مختلفة، قواعد تقصي قواعد الواقع الصارمة الكاذبة، وتظهر الخفايا التي انغلقت عليها النوايا وتستّرت بعبارات محايدة فارغة لتمرير الفقد والاستلاب بين البشر الذين لا يحتملون صوت الحقيقة.

في هذه الأجواء المغلفة بزرقة تشبه أجواء التعتيم وقت الحروب، يجيد أحمد مراد استخدام ثلاث وظائف سردية هي الإخبار والتشويق والاكتشاف، حين يستدرج قارئه إلى قلب "الفيل الأزرق" أو الأعماق المعتمة في النفس الإنسانية المعاصرة، إن الإخبار يتم من خلال العرض والتصوير والتسجيل، فقد أفاد الراوي من التقنيات الرقمية المتاحة في عصر العلم الافتراضي ليحاول أن يمسك بتلابيب النفس المنفلتة في جوف الحلم، وبالنسبة للتشويق فإن الجمل الدرامية (المتواليات) لا تفشي السر حتى النهاية، فحين يتأهب القارئ لرؤية ما يظن أنه نهاية العرض، ليكتمل زهوه برؤية الحقيقة العارية ويكشف أسرار الحكاية، يخيب ظنه، إذ يجد ورقة جديدة تغلّف حلوى السرد، ويجد الصندوق الأزرق مازال محتفظا في أعماقه بالصندوق الأسود، وبالتالي تؤسس الوظيفة الإخبارية طريقا سحريا لوظيفة التشويق الممتعة، ولعل المتعة المعرفية الكبرى التي تدرك حدودها جيدا رواية "الفيل الأزرق" هي فن مشاركة المتلقي لأحلام شخصية تسكن بين دفتي متخيل وترى معها ومع ضيوفها في الحلم تلك الأوهام الرهيبة الضاربة في دهاليز الشخصية العصرية التي يقمعها سلطان المؤسسة العلمية القاهر المطل عليها شبحه الضخم في عالمها الباطن وقد انطوى في رداء الدجل الذي برع المتسلطين في استخدامه عبر التاريخ، وهذا ما يمنح "الجبرتي" حق اللجوء السردي لعالم الفيل الأزرق، ثم تأتي الوظيفة الثالثة التي يكتمل بها مثلث الجاذبية السردية وهي وظيفة الاكتشاف، وأي اكتشاف يمكن أن يوقع القارئ في مجال الشحذ الذهني بمغناطيسيته الجبارة أكثر من إعطاء ذاك القارئ أنبوبة تحميل مجموعة من الكوابيس كي ينشغل بحل رموزها والوصول إلى تحديد دقيق لمعرفة العلاقة بين عالمها السفلي في ليل الوعي وعالم النهار الذي تتصارع تحت شمسه الملتهبة أو ثلوجه الباردة أشباح الواقع، فربما كانت تلك المسافة بين الرمز الخاص في أبجدية الفنون والرمز العامة التي نتواصل بها في الأسواق هي الفضاء الذي نطارد فيه أشباح الوهم كي نلمس أنفسنا المتوارية في الأعماق البعيدة.

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق