رسالة في التسامح > مراجعات كتاب رسالة في التسامح > مراجعة أمل لذيذ

رسالة في التسامح - فولتير
أبلغوني عند توفره

رسالة في التسامح

تأليف (تأليف) 3.5
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
0

عادة عندما نفكر في كلمة "رسالة" تخطر في بالنا مجموعة من الكلمات المتبادلة بين شخصين وبأن بها مساحة من الخصوصية،ولكن هذه الكلمة أيضاً تستخدم حينما نتكلم عن الرؤية أو بصياغة أخرى عندما يكلم مفكر أو باحث أو رجل علم أو دين مجتمعه عن أمله أو أهدافه أو ما يريده لنفسه ولهم،ومن أكثر الرسائل تأثيراً من النوع الثاني كانت للزعيم مارتن لوثر كينغ في خطابه الذي قال في :"أنا لدي حلم"،وهذه الجملة القصيرة حركت جيل هذا الزعيم والأجيال التي تليه لبدء التغيير البناء،هي جملة ما زال الكثرون يحاول تفسيرها فيستنتجون منها معاني وغايات عديدة لصالح الإنسانية،الإنسانية بأفرادها ومجتمعاتها،فالفرد السعيد يساهم في بناء مجتمع سعيد والمجتمعات السعيدة تعين أفرادها على نيل السعادة،فالغنى في كلمات كنغ كان لنظرته البعيدة لما يأمله لذاته وبلده والبشرية والغنى هنا وصل للعقول والأفئدة لأنه كان محاطاً بالإرادة المتوقدة بالمصداقية...

كتاب (رسالة في التسامح) لفولتير، يحتوي على رسالة أطول من رسالة كينغ ولكنها تشابهها في الرغبة في إصلاح المجتمعات والبلدان ،ففولتير في فصول كتابه الخمسة والعشرين طرح مواضيع حتى الآن تؤرق أصحاب الرأي والثقافة،وهناك من هم في وقتنا وكذلك في العصور السابقة من يفضلون أن لا يتم الخوض فيها متذرعين بأنها تفتح جروح إندملت وبأنها من زمن ولى وبأنها تعيد بطريقة ما أشباح الطائفية والعنصرية والقمع الفكري وأيضاً منهم من يقولون بأن المجتمعات ليست مستعدة الآن لإثارة الجدل حول ما يتعبها،وبالرغم من كل ذلك أخذ الأستاذ هنرييت عبودي رسالة فولتير وقرأها وتمعن فيها وترجمها مع أن تحديات كثيرة واجهت أثناء الترجمة،فالكتاب تمت كتابته ب فرنسية ذلك العصر التي إستخدمها فولتير بالإضافة إلى العديد من المفردات اللاتينية واليونانية،والمترجم تكبد كل هذا العناء ليقدم لنا رسالة فولتير على أكمل وجه ربما لأننا بحاجة لها ولإستيعابها في أيامنا هذه،فالرسالة وإن كانت للشعب الفرنسي إلا أنها قد تحاكي أوضاع الشعوب الأخرى وقد تكون موجهة حتى لزماننا دون أن يقصد فولتير نفسه،ولعل فولتير أراد أن تكون رسالته ساخرة من الوقت لإداركه بأن النفس البشرية هي النفس البشرية وإن إختلف الزمان والمكان،وفي مطلع الكتاب يبدأ فولتير رسالته بنقله لوقائع حادثة،وهي لتراجيديا الفقد والوفاة لعائلة شخص يدعى "جان كلاس" ،فهي تبدو كحالة إنتحار لشاب ،وإنتحار من هم في ربيع العمر كثيراً ما يحدث حينما تتكسر أحلامهم ،وكل هذا يبدو عادياً إلا إذا علمنا بأن هناك ثغرة طائفية في الواقعة،فعائلة هذا الشاب كانت بروتستانية بينما كان هو كاثوليكياً، ومع ذلك فوالده إستمر في مساندته مالياً ولم يتنصل من نسبه إليه ،ويرجح بأن الابن قام بتغيير مذهبه ليحصل على عمل وليجاري المجتمع الذي كان أغلبه كاثوليكياً،ولم يوفق الابن في الحصول على الوظيفة وتراكمت ديونه فقرر إنهاء حياته ،وتم إتهام الأب بأنه من قتل ابنه بسبب التغير العقائدي للابن،وتمت محاكمة الأب بإيعاز من الضغط المجتمعي وتناقل الأحاديث بين الناس،والكاتب جاد علينا بتفاصيل المحاكمة وكيف أن الجماهير كانت تحتفي بقرب سفك الدماء وكيف أن القاضي الذي كان يؤمن ببراءة الأب إضطر للتنحي،وبالفعل تم إصدار حكم الإعدام الذي كان أمام مرأى الجماهير التي أرادت متابعة هذا الحدث الذي ساعدت في تشكيله،تولوز حينها كانت تنتشي بهذا المنظر الذي ظهر أمامها كعيد قومي وديني أيضاً...

ناقش فولتير الدعوة الإصلاحية التي نادى رجال الدين في ذلك القرن،وهو سرد لنا كيف كانت الممارسات الدموية التي تبعت تلك الدعوة،وندد بها كثيراً وأكد بأن المسيح لم تكن على عهده الجزيات ولا تلك الأوراق التي تسمي ب"صكوك الغفران"،فالدين المسيحي النقي هو بريء مما إقترفته هذه الأيدي وإستهجن أن يطلق على الإضطهادات بالتعاليم المسيحية،وهو يتساءل عن الوجهة التي إستفادت من الأموال التي تمت جبايتها من الشعب آنذاك،هو قام بعمليات حسابية بسيطة ليكتشف بأنها كانت مبالغ طائلة،وذكر لنا أمثلة لمن تضرروا وتعرضوا لأبشع أنواع الظلم من حرق وسلب لحقوقهم والتنكيل بهم بسبب تلك الدعوة وتحديداً جباية الأموال،ومن ثم يدخل فولتير في صميم التسامح ويطرح سؤالاً جوهرياً حوله وهو "هل التسامح خطر؟"،وهنا يستشهد فولتير بمآسي حدث في المدن الفرنسية بسبب الصراعات الكاثوليكية والبروتستانية وهو يؤمن بأن ثورة العلم والكتب التي آزرتها ،وتمدن المجتمع والرقي الذي يبدر في بعض أساليبه،ورغبة الشعوب الأوروبية وليس فقط الشعب الفرنسي في وقف إراقة الدماء ،فالشعوب الجرمانية أيضاً عانت من ويلات الطائفية ،فآن الأوان لتخلو منصات الإعدام من حبال الشنق ذات النزاعات المذهبية،وحتى إمبراطور الصين في ذلك الوقت قد ضاق ذرعاً بالمشاحنات الطائفية الأوروبية عندما وصلت مجموعة من الأوروبين لبلاده فطلب ممن أججوا تلك المشاحنات مغادرة بلاده،فهو لا يريد أن يرى دماء صينية تسكب وأرواح صينية تزهق كما حدث في دول آسيوية مجاورة كاليابان والفلبين ،وبهذا فالأزمة الأوروبية المذهبية خرجت عن حدود أوروبا،أي أنها باتت تشكل هاجساً بالنسبة لبقية العالم في القرن السادس عشر،فالشرارة الطائفية لا يجب أن تؤذي شعب تملؤه المسالمة ومتعايش بالرغم من الإنتماءات الدينية المتعددة فيه كالشعب الياباني،وفولتير صار يتكلم عن فسيفساء مجتمعه العقائدية والإقليمية، وهو كان يتمنى أن يتم إعتبارها كعامل تقوية للمجتمع وليس لتفريق من ينتمون إلى الجمال الفسيفسائي المجتمعي،أليست كل قطعة من الفيسفساء تكمل الأخرى وتسندها وإن لم تكن معها لوقعت وربما لوقعت كل القطع ،أليس سقوط قطعة فيفساء واحدة كفيل بإحداث نقص كبير في عيون الناظرين وأيضاً بالنسبة لبقية القطع الأخرى،وهو ينتقد بشدة من ينساقون وراء القول التالي "إن الله يأمركم بألا تنهضوا بواجبكم كلما تخوفتم من الظلم"،فهو يرى بأن أتباع هذا الرأي هم يسوقون لفكرة تغييب التفكير وفكرة الرضا بالجور وفكرة التقليد الأعمى،هو يراهم في غيبوبة فكرية وبأنهم يريدون أن يحذوا بقية المجتمع حذوهم فتحل خسائر الحقوق وخسائر الكرامة،ويضيف تساؤلاً آخر وهو "هل التعصب قانون طبيعي وقانون إنساني؟"،وهو أكد بأن التعصب هو غير طبيعي وغير إنساني،أي أن هناك أطراف لها مصالح ومكاسب تحاول أن تحققها عن طريق التحريض على التعصب حتى وإن أدى ذلك إلى التخلي عن الإنسانية وتأجيج الإحتقانات المذهبية وترسيخ العنصرية،فهذه الأطراف التي عادة ما تتكون من أصحاب النفوذ الديني والمادي هي تهتم بنيل منافعها مهما كان الثمن ومهما كانت السبل،فصارت لديها حملات تجبر الشعوب على إعتناق المذهب الذي تختاره لها،وبعد ذلك قام فولتير بالعودة للوراء فأراد أن يعرف إن كانت الشعوب السابقة لعصره واجهت أزمة التعصب،فوجه تركيزه للحضارة اليونانية وعرض لنا نماذج عن وجود إختلافات دينية وبعضها جذري لدى الشعوب الإغريقية ولكنها لم تتناحر فكرياً كما تناحرت الشعوب الأوروبية،وهذا كان مع أن بعض الجماعات الدينية الإغريقية كانت في قمة التدين ولكن ذلك لم يجعلها تبغض غيرها من الجماعات أو تتهجم عليها في أغلب الوقت ،أما ما تم لاحقاً فهو يمثل الإنحسار الفكري وأيضاً القومي للشعوب الإغريقية عندما تم تغليب الهوى على العقل فكانت حادثة سقراط الشهيرة،ومن هذا المنطلق نستشف أن من بوادر إنهيار الحضارات هو تلاشي التعقل،وهذا الأمر ينطبق على الحضارة الرومانية ،فهي الحضارة التي كانت تحتضن لوقراسيوس بالرغم من كل التحفظات على آرائه الدينية والتي كان من ضمنها شكه في وجود الله وكذلك شيشرون الذي كان غير مقتنعاً بوجود "مملكة العالم السفلي"،وبعد ذلك تكون المزيج المجتمعي متضمناً الديانة المسيحية والديانة اليهودية ،وإذا بالمجتمع يتعرض لما تعرضت له الحضارة اليونانية،فمن بعد تماسك المجتمع الروماني وتصالح أفراده بالرغم من إختلافاتهم الدينية صار المجتمع سقيماً وإنتكست أحواله بفعل مرض النعرات والحروب الطائفية،فالمجتمع الروماني إستبدل الفكر بالتعصب فكانت هذه النتيجة،وفولتير حاول إزالة اللبس حول إفتراءات تم توجيهها للمفكرين الذي إستنكروا التعصب في زمانهم،وأخبرنا عن أنواع التعذيب التي ألحقت بهم من سجن وقتل وأيضاً الإساءة إلى جهودهم التنويرية،ومنهم رجال علم ومنهم رجال دين،فهم حاولوا أن يحذروا الشعوب من آثار الإحتدامات الطائفية والتعصبية،وساق لنا بما أسماها "شهادات ضد التعصب"،وهي من أقوال فئة المناضلين ضد التعصب ،فصدحوا بقول الحق في ذروة تمكن الظلم من الإستشراء،ومن ضمن هذه الأقوال كان قول القديس يوستينوس "لا شيء ينافي الدين كالإكراه"،وقول "مثل الدين مثل الحب :فهو لا يفرض فرضاً ولا مدخل للإكراه إليه ،ولا شيء أكثر إستقلالية من الحب والإيمان" وهو صدر عن آملو دي لاهوسيه،وفولتير إسترسل في عرض رسائل مطولة أكثر تحمل الطابع نفسه وكذلك وقائع تمت تدحض العنصرية والطائفية والتعصب ....

كتاب (رسالة في التسامح) لفولتير،يمثل إعتصام ضد كل نعرة طائفية وعنصرية حتى لا تؤلم فكر وعقل المجتمعات .

Facebook Twitter Link .
4 يوافقون
اضف تعليق