إنه قاتل مأجور، يتلقى الأوامر القتل عن طريق الهاتف، أو بالبريد، يشعر بالذنب قتل رجل يحترمه، لا يمكنه أن ينسى هذا، كما إنه يعاني الوحدة، ثم في احدى مقاهي السان ميشيل تأتي فتاة لتطلب الجلوس بالقرب منه، كانت في الرابعة والعشرين، لأجلها كسر القاتل المأجور القانون البسيط والواضح: أن يلتزم ببقائه وحيداً، إن تتركه صديقته في رحلة دفع ثمنها يشعر بالوحدة، بالعاطفة، يلتقي بإحدى فتيات الليل، حتى لا يشعر بالوحدة. كان عمره في الثانية والأربعين ويخطط أن يقضى فترة تقاعده حين يصل الخمسين في منطقة بورتاني مع جميلته الفرنسية. هكذا تسير رواية لويس سبولفيدا الكاتب الروائي التشيلي: مذكرات قاتل عاطفي.
إن عوالم القتل غالباً ما تكون مشحونة بالعواطف، غنها احدى التجارب العنيفة في حياة الإنسان والبشرية جميعاً، إن السير النص لا يمكن أن أقل من الحياة الواقعية، فتلك الشخصية التي رسمها دوستويفسكي أتبت بأنه حقيقي جداً، وغن الخيال الروائي، يستفيد من التجارب حقيقية، غالباً ما يكشف الحقيقة قبل أن تكون معروفة، يقول الأديب التركي أورهان باموك: الأدب يسبق الحياة. تلك الشخصية الدويستويفسكية لا يخطئها قارئ هذا الكتاب الصغير، كل الصفات هنا، الموجة العاطفية المفاجئة، الخلل في تفكيره، حاجته لشخص يطمئنه، عالم الأشباح الذي يعاني منه، حتى إنه خلق شخصاً آخر يحادثه عبر المرايا، يوجهه ويشعر بحاجة ماسة لأن يلجأ إليه كلما أحس بالتورط، غالباً ما يكون في حالات عصبية، حتى في أحلامه، التي يحاول أن يقاومها دوماً وقد علمه صديق أيرلندي كيف يقاوم الأحلام، حتى لا يستغرق فيها، كل هذا انتهى بمقابلته لتلك الفرنسية الصغيرة الجميلة، التي أخذها بلا تجارب فجعل منها فتاة تستحق كل ما فعله لأجلها، مشدودة الجسد، ناضجة، تعرف قيمة الجسد وتطلب العشق، وهي تعشقه بدورها، لكنها تغرق مع شخص آخر في مكان ما، وهو لا يشعر إلا بالعشق، دون أن يطلب منها الالتزام، إنه عبث سيئ. هو يعرف هذا، يعرف بأنه يُقدم على أمر لا يجب أن يقدم عليه، ففتاته الجميلة كانت تظهر في الأحلام، لا يمكنه مقاومة ذلك الإحساس الغارق، فيبدأ صراع لطيف حاسم، لا يأخذ صفحات طويلة، لكنه يظل موجوداً في ثنايا النص، في الحوارات، أثناء العمليات، حتى وهو يضاجع فتيات الهوى، يظل عشقه حياً، لا يدركه، طبيعته، لا تدرك ما يحتاجه، بالرغم من أن صورتها تخترق خياله والأسلوب الأيرلندي في إيقاف الأحلام، كانت تلك الصغيرة تطل عليه من ثقب في أحلامه، فيجد نفسه في اليوم التالي منهكاً.
قاتل لويس سبولفيدا غارق في تيه مشاعره، لقد أحب بجنون، كما إنه يشرع في محادثة نفسه بشكل يثير الرعب، يسئ فهمه عادة من بالقرب منه، بدأ يفقد مهاراته المكتسبة، بدأ يفقد أكثر شيء قيم في عمله هو التزام الدقة والتوقيت، تلك الميزة التي يؤكد بأن كل قاتل يتصف بها، باكتساب مع التجربة والممارسة الطويلة ليكتسبها دون أن يشعر، وإنها مكلفة. وقد بدأ يكره فتاته، لأنها سبب في معضلاته، روحة انتقامية طفيفة !
يتلقى مهمة قتل في تركيا، اسطنبول، ينطلق إليها، ليبحث عن قاتل يغرق السوق الأمريكية بالمخدرات الرخيصة، ذات النوعية النظيفة، يقول معلقاً: كأنها جمعية خيرية في عالم المخدرات، تهب مخدرات مجانية ونظيفة لأجل الانتقام من الأمريكان لصالح كل مكسيكي يهان عبر الحدود. هناك في تركيا، يبدأ في الغرق مجدداً في معضلات تتعلق بالعشق، فيركض هارباً عبر المطار الدولي، عقب خطأ شنيع، لنكتشف مجدداً بان المطارات الدولية، هي ممرات القتلة المأجورين، يا ترى كم قاتلاً مأجوراً قد تقابله في المطارات الدولية، دون أن تشعر؟ قد تصافح أحدهم، أو تبتسم له، أو تطلب منه قلماً أو حتى تقف خلفه أو أمامه في الصف دون أن تدري بأنك تقف بجانب قاتل ؟
إنما الرواية تحمل جانباً أخلاقياً
لأي قارئ ليبي أو شخص تخوض بلاده حرب طاحنة كما يحدث في سوريا مثلاً أو العراق، لا بد بأنه سيتساءل عن مدى حقيقة مشاعر القتل في النصوص الأوروبية، عن قيمة التي تعطيها النصوص في عمليات القتل، سواء الاغتيالات أو القتل الجماعي، ربما لا أمتلك جواباً عن هذا، إنما فكرة القتل التي تكتسح بلداننا تحمل أبعاد أكثر مأسوية، لأنها تعمل على نحو مرعب باقتلاع مفهوم الذنوب، حين يتم رؤية عشرات عمليات القتل عبر الشاشات، وذلك التحريض، حتى نفقد أو ننسى مدى بشاعة ما يحدث، ليغدو الأمر كله أقرب إلى نوع من العمل البشري الطبيعي، للكسب أو النصر أو وهم البحث عن الأمن بقتل الآخر، هذا النص لا يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال، بل لا يضع في مهامه هذا، هدفه واضح، دقيق، ربما يغدو عادياً، إنما فني بالدرجة الأولى، كابتسامة موناليزا، التي تأخذ طابعاً فنياً في عصر، تبتسم فيه اغلب الفتيات ذات الابتسامة الساهمة الحزينة، إنما يحتل الفن مكانة أرقى، إنه رمز يعبر عن الجميع، إن قتل الذي في النص الصغير ليس رمزاً، إنما مشاعر العشق التي جعلت القاتل يشعر بأنه يُقدم على أمر مختلف هو المهم، حين تراهن نفسك عن ما سيقدم عليه القاتل تجاه مشاعره الجديدة، ضعفه، ارتباكه، وعودته إلى طبيعته البشرية بعد عشرات السنين من القتل الدقيق، والاغتيالات، وأحياناً القتل ببشاعة على حسب طلب. ستة أيام هي عمر الرواية، إنها رحلة أعمق من ستة وثمانين صفحة التي تشكل مساحة الرواية.