رواية(سُولو) للأديب ماجد الجارد،عنوانها يجلب إحساساً بالوحدة والعزلة كما توحي مفردة"سولو"وهي أيضا تمرر لنا نبضات شجن أحادي يعزف بهدوء كما يدل معناها الموسيقي بمعنى"العزف المنفرد"،وهناك كذلك البعد البشري فالإنسان يدخل هذه الدنيا وحيداً ويخرج منها وحيداّ،وسواء كان هذا التفرد كان على وقع هجير الحياة أو في قلب نسيته الراحة أو في سكون إحتفاء نفس ما بما حولها ،فإن هذا التفرد يحمل عاطفة تخطف الأسماع بالرغم من كل الألم!
فالرواية تحكي لنا عن "زكريا" و "سارة"،ورنين الإسمين بما تدور حوله الأحداث لا يبدو لي عشوائياً،فالإسمين يشيران إلى الأثر الديني والتاريخ المجتمعي،فسارة في الرواية هي تلك المرأة التي دأبت منذ طفولتها على صف ما تملك من دمى لتمارس أمومتها،وهي من حرصت على إمطار نبتاتها وزهورها برعايتها،وهي من دللت الحيوانات التي أحبتها،ووصل حنان سارة إلى تواصلها مع الجمادات في منزلها،هي كانت تعشق أن تطوف الأماكن مع آلة التصوير التي إمتلكتها لتصور لقطات تراها أعين الناس عادية ولكنها كانت تحب أن تأخذ كاميرتها صوراً لبحر مقهاها المفضل ولزهورها التي تفرحها،فكانت تكثر من تصويرها وكأن هناك ما يدفعها لتوثيق حياتها البسيطة بهذا الإندفاع،فسارة التي كانت تنثر شغفها بالحياة ودت أن تحصل على أبناء يشاركونها هذا الشغف،ومن هنا بدأت سارة تخطو خطواتها الأولى في دروب المشقة،سارة كانت هي التي تتحدث وهي التي تتكلم ولكنها لم تكن متواجدة لتخبرنا كيف أتعبتها تلك الخطوات،فصارت دفة الكلام بين يدي زكريا،هو وجد نفسه وحيداً دون من عزفت على قلبه أعذب الألحان،هو من صار يقول حكايته مع زوجته وغاليته سارة،هو أصبح في المنزل وحده ولديه متسع من الوقت ليذكر أزهارها بها وليتأمل وجهها في أكواب القهوة الفارغة والممتلئة،فالأكواب البيضاء تشبه أمل سارة والأكواب بما فيها من قهوة قاتمة شابهت معاناتها،هو حاول أن يعثر على جمهور يستمع إليه ولكن أي جمهور سيستمع إلى شاعرية حزن مستمر،هو مر ببائع الزهور الذي تحير من عدم وجود سارة مع زكريا ،ومشى مع وجعه ليرى وجعه متكرر أينما ذهب،فإذا به يعثر على منصت صامت للحكاية،هو لم يخطر على باله بأن جارته البصارة ستكون هي ذلك المنصت،هي كانت غريبة بمعنى الكلمة ومن أغرب ما فيها بأنها كانت قليلة الكلام بالرغم من مهنتها،هي تعرف سارة وقرأت قدح القهوة الخاص بسارة،هو تمنى أن يعرفها على سارة أكثر وأن تعرفه على ما رواه القدح عن سارة،هو شرع في إخبار الجارة عن تفاصيل آمال سارة وكيف إنها كانت ترغب بشدة في الإنجاب وكأنه يرسم دفء مشاعر سارة على قدح الحياة الأبيض،وبعد ذلك تسربت قطرات كثيرة من الغصات بالتدريج ومن ثم بعنفوان كثير إلى ذلك القدح،هو الزوج المحب لزوجته يرثيها لألمها الذي عاشته في حياتها ويرثيها لموتها ويعزي نفسه لخسارتها،كل منهما تأزمت حياته بفعل ضغوطات رغبتهما في الإنجاب،فسارة التي أصرت على الإنجاب والتي أمسكت بدفتر أحمر لتدون فيه قرب حصول ذلك،تعذبت لتأخر حملها وخشيت من إستحالته،فلجأت لوالدتها التي جعلتها تتوجه للعطارين والطب الشعبي وأيضاً ذهبن سارة بالسر لمن قاموا بكيها وبعمل الحجامة لها ودري زوجها بذلك من خلال جارته،سارة كانت تنساق وراء تعليمات والدتها لها وغضت الطرف عن كونها دارسة،وحينما عاتبها زوجها متظارفاً حول هذا النوع من التداوي طالبته بأن يقوما هم الإثنين بالذهاب للأطباء،فهي أشارت إلى أن سبب عدم الإنجاب قد يكون متعلق به،وتوجها كليهما للطبيبة التي قامت بوصف وصفة سريعة لسارة وأخبرت زكريا الذي عاش في قلق رهيب بضرورة إجراء فحوصات ،وهو قام بعمل الفحوصات التي أودت به إلى عملية لم ير نتائجها المتوقعة فأكمل علاجه بالتداوي وخائفاً على رجولته ونظرة سارة له وأيضاَ ترقبها للحمل،وبعد أن أنهى علاجه لم تحمل سارة فدخلت في معترك رحلة أنهكتها وكان الطبيب رجلاً هذه المرة وزوجها لم تردعه العادات والتقاليد و لا التكاليف المادية الطائلة بقدر إسعاد سارة ،فدفتر سارة الأحمر شهد على خيباتها في حدوث الحمل وكذلك على مصاعب حملها ،ولم يكن تلك الحمرة الكاسية للدفتر ولحياة سارة بالسارة عل الإطلاق،فهي منيت بمفارقة ما تأملت به من وجود طفل في حياتها،صارة أغدقت أطفال الحي بأمومة نابعة من قلبها وإن لم تكن في رحمها،هي أتت بدمى لتحتضنها فأحضان سارة إشتاقت للملامح الطفولية،هي إنتشلت طفلاً متشرداً يبيع الفزط لتربيه فهرب من منزلها ،فأحزنها هروبه وأيضاً عدم قدرته على نطقه كلمة إشتهتها روحها كثيراً وهي كلمة "ماما"،فالطفل كان أبكم .
وهذه الرواية بالإضافة إلى مضمونها المهم والذي يعنى بموضوع أوجاع المرأة التي لم تتمكن من الإنجاب،فهي تستحق الإعجاب لإن من سطر كلماتها رجل لم يبخس المرأة حقها،وهو جعل من ينقل تلك الأوجاع في روايته رجل مثله،وبالطبع أسلوب الكاتب كان رائعاً،فأسلوبه حاكى عزف الناي،فعزف الناي يكون في أوجه وهو منفرد،فكان حوار بطل القصة منفرداً حتى وهو يتناول القهوة مع الجارة نحس بإنه يكلم نفسه ويكلم وجعه،فالناي يعزف لحن يكلم العازف نفسه عن وجعه،فالحزن هو السمة المعروفة لكلام الناي ولكلام من يرثي حيبيبه،وهنا الحزن متضاعف و ترانيم الحزن تضاعفت،فالفقد مارس سلطته على الحكاية حتى أبكى كلماتها وهيج المعازف الحزينة فيها،والمفردات التي صاحبت هذا العزف الشجي كانت مفعمة بالجمال كشكل لفظي ومعنى تصويري،وكعاطفة تصف الضعف البشري وعذوبة الوفاء!
رواية(سُولو) للأديب ماجد الجارد،فيه تذكير بأن الأمومة تتخطى حدود الأرحام!