ترانيم في ظل تمارا > مراجعات كتاب ترانيم في ظل تمارا > مراجعة مروه عاصم سلامة

ترانيم في ظل تمارا - محمد عفيفي
أبلغوني عند توفره

ترانيم في ظل تمارا

تأليف (تأليف) 4.1
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

كلي امتنان ... فهو الكتاب الوحيد منذ ما يقرب الأسبوعين الذي صمد أمام طقسٍ خريفيّ يعصف في البال .....حيث أُنهي من كل شئ نصفه أو بضع كله ثم أهجره دون اكتمال ...أحتال حتى على المنام فأقدّر له من الساعات قدرا أعلم في قرارة النفس أني سأصحو منه قبل التمام ... ولو كان لي أن أرفق خلفية تلك الأيام بالموسيقى لما اخترت غير صوت (غالية بن علي) تشدو مرارا مرارا بلا كلل : ((بروحي صورة كمال لم لم يكتمل )) ...حتى المرايا سئمت مني لكم أعاودها نفس الاستنكار بلا ملل : لو أعلم فقط ماذا تريدين لارتحت!! ...حتى عثرت على هذا الكتاب عن خواطر عفوية لرجلٍ مسنّ ..أصدقائه حديقته وما فيها من شجر !!...نعم هذا كل ما في الأمر !!... فذكرت رجلاً غريب الأطوار له وسادةً من حقيبةٍ للسفر ....كتب يوماً منذ عام في الغياب عن سعادته بمطرٍ أصاب البلاد....فلقد زرع أمام منزله شجيرات من تين وبرتقال ، يعلم جيدا أن لن يرى ثمرها في البعاد !! ..فسرّني حينها فهم ما في عبارة درويش من جمال : ((هذا غيابك كله شجرٌ يطلّ عليك منك ومن دخاني)) ..ثم اعتراني بعدها صوت أمي حين قالت يوما بحزن : ((عارفة يا مروه !..لما ستك اتوفت حتى الشجر مات)) ....وذكرت كيف سرى فيّ حينها رعدة السؤال: أويبتغي المرء أعذب من هكذا نعي عند الممات؟؟ ...من أجل ذلك ليس بوديّ أبداً أن أعرف إن كانت تلك خواطر الكاتب الواقعية أم مجرد رواية عن طيف بالخيال ..ولا أدري عن (محمد عفيفي) كمؤلف غير أن هذا الذي بين يديّ هو آخر ما دوّن قبل الوفاة ... وأن في الوقت الذي يميل فيه الكُتاب عادةً قبل الرحيل لترك الحكمة وفصل المقال ..فضّل هو ترك هذه الوريقات لترسم صورة ذهنية في نفسك لرجل وسيم الروح...تبوح بطاقته العائلية بالتالي من البيانات: هذا رجل له زوجة وولدين وثلاث شجيرات وقطة ...ورغم فرط البساطة سيكون لعنوان الكتاب (ترانيم) تفسيرا يزداد منطقية كلما أشرفت على النهايات ...وكأنك مثلاً قرأت لتّوك كتاباً في كيفية الصلاة متبتلا لله بمحراب كونه ومسبحاً له بكائناته.. وممتناً لكل ما في الحياة من حياة!!

لو كان لي من الأمر شئ ، لكنت اقتبست كل المشاهد والسطور ...فلا شئ هنا يستحق التجاهل.... بدءاً من ذكريات اختياره لأسماء الشجيرات (تمارا ) للكبيرة ..ولشجرة الليمون (بنزهيرة) ..و(رينا) للصغيرة ...ومروراً بحواراته التلقائية الجادة مع كل شجرة على حدة ومع الفراشة والضفدع والعصافير ...ولم أكن أبداً لأنسى القطة (موني) التي عمّرت بداره حتى بلغت من العمر أرذله فصار يتأمل كل يوم ذوي عمرها بعينيه قبل أن يدفنها في الحديقة بيديه ....كان حين يذكر شبابها الماضي حيث صغارها تنهل من نهدها ...يجد نفسه يداعبها بحنان : ((أوعى يا بت تكوني حبلتي على كبر؟؟ )) ويتخيل بعينيها نظرة استنكار تقول : ((بلا نيلة ! أنا قادرة آكل عشان أحبل!!)) ...ولم أكن لأتجاهل الكلب (فيدو).. كلب (الحاج جمعة ) والذي تجرأ مرة وسمح له بالتسلل إلى حديقته الصغيرة لينام على النجيلة بينما تنشغل (أمينة) بإعداد الطعام والتي كانت قد حظرت على الكلاب دخول الجنينة لاعتقادها بنجاستها ...ثم تجرأ أكثر فمد يده ليربت على ظهره وهو يسأله بعفوية طفل : ((أنت صحيح نجس يا فيدو؟؟)) قبل أن يحصل منه على إيماءة حانية من رأسه و(لحستين نجستين) على ظهر كفيه ... الوحيد الذي لم يكن له اسم هنا كان (هو) صاحب الدار ..كان هو لسان الراوي أما على ألسنة الباقين فله على الدوام (ضمير الغائب) ...وكأنه تعمد من الكاتب كي يكون في خيال كل قارئ (شخص الغائب) الذي يريد وإن كان شخصه.

لكني لن أتنازل رغم الإطالة عن هذه المشاهد الثلاث....فلطالما شغلني أن أعيد صياغة مسمى (العلاقة الحميمة) لرجل يحب امرأة في الأذهان...فكان لي ما أردت:

المشهد الأول :

((يقول هو : فجلست في الصالة على يمين المدفأة المشتعلة ، على الفوتي اللبني الذي كان ذات يوم أزرق ، وقدماي على ما تبقى من وبر في البساط النبيتي العتيق، وأمينة على مقعد مماثل عن يسار المدفأة ، تتلاقى أصابعنا الباحثة عن الدفء أمام فتحاتها حيث العهد الساخن الذي فيه شفاء لأصابعنا العجوز المتجمدة ، له حق أن يكذبنا من نقول له أننا كنا ذات يوم نستنبط الدفء بالجهود الذاتية من جوف هذين الجسدين ...(يا كبدي يا بني ! شوف احنا قاعدين دفيانين إزاي وهو يا ضنايا مش عارف يفتح الباب من كتر الثلج) معلومة كتبها لها حمادة (محمد إبنهم الأصغر المهاجر) في رسالته الأخيرة وأشعر أن شيئا هاما ينقصها لكي تدخل في الدماغ، واسترسلت أمينة وهي تلتقط بكرة من صوف التريكو الأزرق: (أديني هاعمل له بلوفر حلو يدفيه ) ..( هي من قلة البلوفرات في أمريكا؟؟) ..( شغل إيد الأم يدفيه أكتر ) ..(حسرة على اليتامى اللي زينا !) ..فأحببت منظر الغيظ الكاذب على وجهها القمحي الذي بدأت تغزوه التجاعيد ، ولمسة الخضرة القديمة ما زالت تتلاعب في عينيها ، وإن فقدت بريقها القديم، وما كان أحد ليلوم أمينة أو يطالبها بأن تظل هي أمينة القديمة بعد ذلك الذي حدث ، فلو أنهم قالوا لها إن (إبراهيم) قد استشهد لكان ذلك أرحم بها من تلك الكلمة الجافة الباردة : (مفقود) ، قالوها وسكتوا ، عملوا ما عليهم وانصرفوا ، مامن أحد شرح لها كيف تحول ولدها الأكبر من موجود إلى مفقود ، فكانت أسابيع مريرة بالمستشفى ، وفي عالم غير عالمنا تعيش أمينة، في عالم وحدها عاشت أمينة أسبوعا وراء أسبوع ، وجاء من أقصى سيناء رجل يجري ، فك ما تبقى من أزرار الجاكتة الكاكي وارتمى قائلا وهو يلهث: (ماحنا نصنا مفقودين يا بيه ، حد عارف حد من حد؟؟ دي القنبلة من دول تنزل على اللوري باللي فيه تخليهم فحمة سودة!) ..ولدي فحمة سوداء ، صورة أفزعتني لزمن طويل إلى درجة الإذلال ، والحمد لله أنها لم تصل إلى أذنيّ أمينة في عالمها الآخر ..وعادت أمينة إلى عالمنا ، لكنها لم تكن وما كانت يمكن أن تكون نفس أمينة التي ذهبت ، أشياء منها بقيت هناك ولم تعد ، وأشياء عادت بلون مختلف ، مثل شعرها الذي كان أسود فصار أبيض، وشيئا فشيئا بدأت تتعلم الابتسام من جديد ...ومن فوق بكرة الصوف الزرقاء أتاني صوتها يقول : (مش عارفة كان هايجرى لي إيه لو حمادة راخر جرى له حاجة ؟؟) سؤال سمعته منها أكثر من مرة بعد أن هاجر حمادة ...من فوق خيوط التريكو تأملتها بحب ورثاء وهي لا تراني ، ثم ملت نحوها قائلاً : (بحبك يا أمونة !!) فاختلست نحوي نظرة مستغربة ثم ابتسمت وقالت : (حبتك العافية !!) ))

المشهد الثاني:

((يقول هو : مثل طفلة صغيرة تنام أمينة ، وكل الناس أطفال إذا ناموا ، طفلة في الستين من العمر ، فاغرة الفم في تلك البلاهة التي تميز الإنسان إذا انفصل عن عالم الوعي ، أرجو أن تكون أحلامها في كاليفورنيا أو حتى ماسا شوستس (والتي كانت لا تحسن نطقها قائلة : جتهم البلا ف أساميهم! ده اسم حد يسميه لبلد؟؟) ..سمعتها قرب الفجر تفتح الثلاجة وتأكل منها بشراهة كما كانت تفعل زمان عقب الكارثة وبينما هي عائدة كانت تلهث وتكلم نفسها قائلة : ((يحميك ياحمادة ! يحميك ويخليك يا حمادة !)) وهنا عاودت النوم ناسية على غير عادتها أن تطفئ الأباجورة ، ذات يوم كانت هذه العجوز المسكينة شابة حلوة شهية مليئة برغبة الحياة ، وبالطفل الذي قدر له فيما بعد أن يضيع ، على كنبة تمددت منذ سنوات طويلة تقرأ ، وفجأة هتفت تناديني قائلة : (تعالى قوام ! إجري أمال ! هات إيدك !) وخطفت يدي لتضعها على نقطة من بطنها قائلة في فرح بالغ : حاسس بيه ؟ بيلعب! والنبي بيلعب! ) الجنين الذي انقضى شهر كامل وهي تنتظر منه أية إشارة تثبت وجوده ، وأحسست به يتفزز ويتلوى تحت يدي ، الكائن الغريب الذي يتغذى في جوف الظلام على دمائها ))

المشهد الثالث:

حين شرع في إقناع أمينة بزرع الزهور في الحديقة يقول : ((وغامرت بعرض الفكرة على أمينة في إحدى لحظاتها الصافية ، مؤكدا لها أن هذا الإصرار على الحزن وعلى تحريم ما أحل الله من مباهج الحياة ما هو إلا رفض خفي لإرادة الله واعتراض صامت على مشيئته (وعلى كل حال اعرضي الحكاية على دار الافتا) ولكن الشيخة مفيدة صاحبة الدرس الديني الأسبوعي الذي تحضره أمينة منذ سنوات ، بارك الله فيها من شيخة متفتحة العقل واسعة الأفق ، وافقتني تماما على رأيي في حزن أمينة الأبدي ، وإن كانت قد خالفتني قبل ذلك في مسألة الكلب فكتبت عليه النجاسة الأبدية ..وكان من الممتع أن أرقب جمعة وهو يعمل في الحديقة ..إنه يحب الأرض من قلب فلاح أصيل سخطه الزمن خفيرا لشكائر الأسمنت ..ثم قال لي جمعة وهو يشير مزهوا إلى ما صنعت يداه : (شايف يابيه ؟ بالذمة مش بقت شربات ؟ ) (بأنفاسك يا جمعة) (ازرع لك حوض بقى دايرن داير؟ ) (اسأل الست) وبعد أيام رأيته عاكفا على عزق الأرض حول محيط النجيلة الخضراء وقالت أمينة متحاشية أن تنظر إلي : (أقول لك حاجة ولا تضحكش؟ ) (واضحك ليه؟) (أنت مش عارف نفسك ؟؟) (مش هاضحك!) فقالت في خجل : (محمد جاني في الحلم وقالي إنه فرحان بزرع الجنينة!) فمددت يدي لكي أربت في حنان على ركبتها العجوز، هنا حيث جلست أمامي على الكرسي القش الأخضر الذي بلون الجنة ، وقلت لها مخلصاً : ( ربنا يفرحكوا دايماً)..وضغطت برفق على ركبتها فقالت متوجعة بشبهة دلع قديم : (أي ، الروماتيزم!!)..))

آسى رغماً عني على قومٍ ما شغفتهم إلا درامية العبارة فرددوها بتبجيل قائلين : ((الشيطان يكمن في التفاصيل!!!)) ..فهم لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وعن باطنها هم غافلون ...فلو كان الأمر على اعتقادهم فأين يسكن الحب إذن؟؟ ...أظاهر القول ؟؟ و سطحي الفعال ؟؟؟ ..فوالله ما كان للشيطان أن يجد بالتفاصيل مرتعا إن كانت منذ البدء للملائكة سكن؟؟ ..أعلم الآن أكثر من أي وقت مضى أن الحب يكمن في التفاصيل ..والإيمان يكمن في التفاصيل ...وأن الحياة كل الحياة هي ما يبقى في ذاكرتنا عنها من تفاصيل ...وأعلم أني في الغد سأشتري نبتة ريحان ..,سأفكر باسم لها قبل المنام ..وسأنفذ وصية درويش ولن أنسى مع الريحانة قوت الحمام ...وسأبني لي من الغد تفاصيل تسكنها حياة.

Facebook Twitter Link .
3 يوافقون
4 تعليقات