لعبة الأدب > مراجعات كتاب لعبة الأدب > مراجعة سماح ضيف الله المزين

لعبة الأدب - فتحي خليل
أبلغوني عند توفره

لعبة الأدب

تأليف (تأليف) 4
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

لعبة الأدب: تلك التجارب الدليلة

لم أكن أعرف عنه شيئاً، إلى أن جاء الوقت الذي طرح فيه رفقاء الرحلات القرائية الماتعة في موقع أبجد فكرة مناقشة كتاب لعبة الأدب، فهرعت إلى صفحة هذا الكتاب أقرأ تفاصيل عنه وأعرف بعض ما يجعلني أقدم عليه أو أحجم عنه، لأن اسم الكتاب ولمسة الأدب شدتني جداً - ولا أخفيكم - كأي برقة ضوء تلمع فجأة في كهف مظلم، وأشعر بأنها هكذا رغم أنها ليست برقة الضوء الوحيدة ولستُ في كهف مظلم، بل في جزيرة أدبية ناضحة بالضوء المُلهم!

بمجرد لمحت الأسماء التي يشمل الكتاب قصصاً لها أو منها أو عنها – لم أحدد بعد فلم أعرف ماهية المضمون بعد – وقعت عيني على أسماء كتاب عالميين من جنسيات متعددة مثل: (تولستوي، كالدويل، سارويان، جوركي، تشيكوف، موم، فيشر، فورستر...) وكل ذلك على لوحة الغلاف المزينة بكوب القهوة والأوراق المستلقية بجواره تنتظر قارئاً ما أو طاوياً ما، تخيلت أن الكتاب لن تقل عدد صفحاته عن ثلاثمائة صفحة – أقل أو أكثر – لكنني وبدون شكّ كنت قد قررت مسبقاً أن أقرأه في أقل من ثلاثة أيام، واستغربت بشدة حين لم أجد إلا طبعة واحدة للكتاب - وهي إلكترونية بالمناسبة - أعدها وقدمها السيد فتحي خليل، وقام على إخراجها وعرضها عبر الشبكة العنكبوتية بعض العشاق للثقافة في صفحة (بين دفتي كتاب/ على الموقع الاجتماعي فيس.بوك) وتلك صفحة تهتم بالكتب على طريقتها الخاصة، ولأن هذا الكتاب من إنتاج السبعينيات حيث لم يكن النشر الورقي سهلاً كما في هذه الأيام قام مسؤولو الصفحة - مشكورين جداً – بالاهتمام به ونشره، فاجأني أن الكتاب يقع في ثلاثة وستين صفحة فقط، تختصر زخم ثماني تجارب متألقة – على الأقل – لأعلام الأدب الأجنبي وعباقرته، وفاجأني مرة أخرى أن الكتاب عبارة عن عصارة التجربة الكتابية في الأدب لهذه الأسماء اللامعة وليس اختصاراً لها، وما أكبر الفرق بين العصر والاختصار!

أستحضر شروط قراءة عمل فاخر مثل هذا، فلا أجد شروطاً، وأبدأ بمقدمته الجميلة التي لفتت انتباهي جداً، لأشكر بيني وبين نفسي كل الشخوص الذين أسهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في إيصال هذا الكنز إلى يدي، والذي أعتبره دون مغالاة أو مبالغة من أهم وأشمل الكتب التي قرأتها تحت تصنيف التجارب بل أعده من أبسطها وأعمقها أيضاً – ويحق لي ذلك ككاتبة ربما – يسلمُ فيه الأدباء الكبار الدفة واحداً إلى الآخر لتبدو حقيقة لعبة الأدب والفن في قالب متكامل لا تشوبه شائبة ولا تعيبه ثغرة، ولذلك فإنني أدعو إلى قراءته أي كاتب مبتدئ، وأي كاتب غير مبتدئ ولكنه يطمح إلى ما لم يدركه عقل.

العربي فتحي خليل والنظرة للفنون:

يقول فتحي خليل (معدّ الكتاب) في تقديمه: "كل تنظيم اجتماعي وفكري تعرض بالنقد للفنان والأديب على أساس أنهما نشازٌ اجتماعيّ وإن كانت هذه النظم قد اضطرت جميعها إلى الاعتراف بهما كضرورة، والغريب أن أفلاطون في جمهوريته الفاضلة قد وصف الشاعر بنفس الأوصاف التي وصفه بها الدين: أنه كائن يخلق خيالاً ويصدقه، ويدعو الآخرين إلى تصديقه، إنه هائم وغير منظم وغير خاضع للواقع، والخلاصة تدعو إلى أنه حر أكثر من اللازم وغير منضبط، إنه طفل كبير يلعب بلعبة خطرة سواء كانت تلك اللعبة تدعو إلى اللهو أو إلى المغامرة، إنه يخلق بعمله وبسلوكه ارتباكاً سواء حين يفسر الحياة بطريقته الخاصة أو حين يدعو إلى تغييرها بطريقته أيضاً!" ويبرر وجود الكتاب في الساحة بهدف سام حيث يضيف في مقدمته: "إلى جانب ما ينتجه الكبار من فن؛ هناك نصائحهم أحاديث العمل الفني ومتاعب الحرفة، ومحاولة شرح ذلك اللغز الغامض الساحر الذي هو الفن مثلما فعل توفيق الحكيم في كتابه (زهرة العمر)، هذه الأحاديث هي زاد للأديب الناشئ، لأنها إجابات مباشرة على أسئلته الحائرة من منابع أصيلة عادت من محاريب الفن تحكي أسرار رحلتها الباهرة لأولئك العشاق الذين يشتاقون إلى نفس الرحلة، وهذا الكتاب هو محاولة للرد على بعض الأسئلة التي تشغل بال الأدباء الناشئين، نوع من وصايا المحترفين للهواة في لعبة الأدب الخالدة"

الأمريكي وليام سارويان وثقة الكاتب بنفسه:

كانت أولى التجارب رسالة من الكاتب العالمي (وليام سارويان) إلى كاتب شاب أرسل إليه قصة جديدة كتبها الشاب ليقوم الكاتب بالتعليق عليها، ولعل أهم ما شدني في الرسالة قول سارويان للشاب في عدة مواضع من رسالته: "اعتبر أنك الكاتب الوحيد في العالم، وهذا ليس غروراً... اترك نثرك ينساب بلا عناء... أريدك أن تكتب بأسلوب لم يكتبه غيرك في العالم؛ الكاتب الحقيقي يقدر على ذلك... أريدك ألا تشعر بأنك مدين بشيء لأحد، وأنا أستطيع أن أقول لك هذه الأمور الآن فليس بيننا وبين طريق النجاح شوط طويل، هذا هو أنسب الأوقات لهذا الكلام. اعتمد على نفسك، وثق بما تصنعه وما تنوي أن تصنعه يستحيل أن ينتابك الشعور بأنك مدين لأحد ثم حتى تكون كاتباً عظيماً، عليك أن تكون كريماً، لا نحو شخص بعينه، ولكن للفكرة. للفكرة المجردة"

الروسي اليسكي تولستوي ولغة اللؤلؤ:

أما الرسالة الأخرى فكانت للأديب العبقري (اليكسي تولستوي) وكانت عبارة عن مجموعة من النصائح الموجهة إلى الأديب أيضاً ولعل أكثر ما شد انتباهي بينها ما قاله تولستوي عن لغة اللؤلؤ: "العمل الفني هو دائماً عمل ثنائي المفعول، فإن الأديب ينمو مع فنه والأدب ينمو مع الناس الذين يصورهم، والأديب ينمو مع الشخصيات التي يخلقها... هذه الأداة ما هي في تلك الحالة؟ إنها اللغة التي يتكلمها الشعب... يجب أن يعمل الفنان بالعبارات المصقولة المتفردة، عليه أن يكافح ليصل إليها، ليصل إلى لغة من لؤلؤ... كيف يقترب من لغة اللؤلؤ؟ كيف يعثر عليها؟ ليس لهذا قوانين ولا قواعد، ولكن لغة اللؤلؤ هذه موجودة... إن كلام الإنسان هو خلاصة عملية روحية وجسدية معقدة، في عقل الإنسان وبدنه تجري بلا إن كلام الإنسان هو خلاصة عملية روحية وجسدية معقدة، في عقل الإنسان وبدنه تجري بلا توقف ولا نهاية... على الفنان أن يرى الفعل مرتبطاً بحركة روحية، فالفعل يحكم العبارة، فإذا أدرك الفنان فعل الشخصية التي يصفها فإن العبارة المتفردة (لغة اللؤلؤ) تأتي سهلة!... وعلى قد وضوح رؤية الفنان لما يصفه، على قدر نقاء وصفاء العبارة التي يستخدمها لوصف ما يريد... إن لغة اللؤلؤ تعكس حركة فعل مفعمة بالحيوية ومحددة، الفن لا يحتمل الغموض وعدم اليقين والتشويه... على الأديب أن ينمي في نفسه الملاحظة، ويعتاد عليها وأن يحبها ولا يتوقف عن ممارستها، عليه أن يخمن الماضي والحاضر لرجل من حركة؛ من عبارة!... هناك أمور يمكن شرحها في الفن، في مشاكل الحرفة، ولكن هماك أيضاً مسائل شخصية وسرية وحساسية في عملية الإبداع الفني، لا يجوز التحدث بها، وحين يؤرخ الفنان حياته الفنية فإنه عادة يتناول الكثير من مسائل الإبداع الفني ولكنني أعتقد أن أهمها لم يكتب بعد، ما زال في طي الكتمان... وإلى أن يصل العلم إلى تحليل دقيق لعملية الإبداع الفني فسوف تظل محاولة تفسيرها كاملة وبدقة أشبه باصطياد الهواء في شبكة"

البريطاني سومرست موم وملاحقة الأسلوب الأفضل:

أما التجربة الثالثة للأديب العالمي سومرست موم هذا الرجل الذي شعرت أنه نصير القراء، والذي كانت أغلب مفاصل تجربته الواردة في الكتاب عبارة عن تنقيب عن الأسلوب الأمثل للوصول إلى قلوب القراء وامتلاكها حيث يقول: "خرجت من تجاربي الأولى وقد قررت أن أتجنب النعوت ووصف الأفعال والأشياء، اعتقدت أن الكلمة المحددة الموفقة تغني الكاتب عن وصفها، وبعين الخيال تصورت كتبي في المستقبل أشبه بالبرقيات التي تحذف منها الكلمات الزائدة اختصاراً للنفقات، وكتبت فعلاً كتاباً على هذا النحو ولكن محاولتي لتحسين أسلوبي لم تتوقف، ثابرت وتعبت ثم خرجت من تجاربي بعدة نتائج، أتبعتها باستهداف عدة أشياء في كتاباتي بترتيب الأهمية: الوضوح، البساطة، حسن الجرس في الكلمة، وموسيقى العبارة" ولسومرست رأي حاد في الغموض لدى الكاتب حيث يقول: "إنني لا أطيق هؤلاء الكتاب الذين يطالبون القارئ ببذل الجهد في فهم معنى كتابتهم، والذي يكتب بغموض واحد من ثلاثة: كاتب لا يريد أن يتعب نفسه في دراسة الوسائل التي تتيح له القدرة على الكتابة بجلاء، وكاتب ليس واثقاً من المعنى الذي يريد التعبير عنه، والثالث فكرته مضطربة إما لكسله أو قصور في قوة الذهن" ويرى سومرست موم أن الكاتب إذا أدرك أهمية تلك الحقيقة، استطاع أن يكتب عبارات جميلة المظهر، عذبة الموسيقى، على ألا يفضل الموسيقى على المظهر وإن وضعت أمامه الموسيقى في كفة والوضوح في كفة بالنسبة لعبارة ما فعلى الكاتب أن يضحي بالموسيقى لأجل الوضوح، لأنه يرى أن موسيقى النصوص تشعر القارئ بالرتابة والملل وعلى الكاتب أن يكون أشد إحساسا بالملل من القارئ وأن يدركه من قلبه حتى يغني القارئ عن الوقوع فيه حال القراءة.

أخيراً يختم سومرست بقانونين مهمين لأي كاتب: "أولهما/ أن الأسلوب الجيد هو الذي لا يبدو فيه أثر جهد الكاتب، وإنما تبدو الكتابة كأنها متعة الكاتب نفسه. والثاني/ أن على الكاتب أن يكتب باللغة السائدة في عصره، لأن اللغة كائن حي ينبض بالحياة، لذا فهي دائمة التطور والتغير"

الأمريكي أرسكين كالدويل وجلاء الحقيقة:

هذا الرجل وهذه التجربة بالذات جعلتني أندمج معها إلى حد فاق توقعي ولم أستطع حتى هذه اللحظة أن أندهش بشيء منها لأنني في أغلبها كنت أقرأ قصة تسبه ما مررت به تماماً لأقول بين وقت وآخر: "تحدث مثل تلك الأمور العظيمة في هذا العالم الصغير، الأصغر من غرفتي!" تحدث كالدويل كثيراً عن حقيقة أن الكتاب العالميين الذين ينبهر بهم الكتاب النشئون ليسوا سوى بشرٍ عاديين يعملون في مهن متواضعة أحياناً وحقيرة أحياناً لكنهم يجتمعون على أن هناك فسحة في الروح والحياة لا يمكن ملؤها إلا بالكتابة فيعملون في مهنهم المهينة غالباً في النهار ويكتبون بالليل وقد كان كالدويل واحداً منهم.

الكاتب العالمي كالدويل الثري أخلاقاً أدبية والمكتظة حياته بالأحداث يقول بين ما قال في تجربته التي هي عصارة كتابه (فلنسمها تجربة): "إن عددا من أصحاب الرسائل حين يتلقون إجابته عن الأسئلة الخاصة بفن الكتابة يغضبون ويتصورون أنه يخفي عنهم سر "الصنعة" بينما يؤكد هو أن كتابة القصة تحتاج إلى ما يمكن أن يسمى غريزة التعبير عن الحياة بالرواية أو بداء خلق الشخصيات والأحداث، ثم بالجهد الدائب الذي لا يعرف الملل أبداً، والذي يربط بين الكاتب والكتابة حتى الموت"

بينما عرض كالدويل مجموعة من إجاباته على الأسئلة التي ترد إليه بدأت أؤمن أن الحياة ليست إلا ثمة دولاب يسير بنفس الوتيرة، ينخفض ويرتفع على الأرض نفسها، بين القيعان والفضاءات نفسها، ولا يستقر أبداً يتبدل ركابه بين الحين والحين بينما هو سائر بالثقة ذاتها، وللهدف ذاته الذي لم يتضح للكثيرين بعد!

الروسي أنطون تشيكوف والموهبة التي تورث الالتزام:

مسألة الموهبة في نظر تشيكوف تتلخص في: تحصيل الثقافة ومعرفة الحياة والمحافظة على شجرة الإبداع مورقة وصقل الخلق الشخصي للفنان، وهي معركة يومية لا تنتهي إلا بالموت بالنسبة لأبناء الطبقات الشعبية الذين ينبغي عليهم أن يدافعوا عن موهبتهم بقوة، وعلى حد تعبير غوته: "إن الذي يستحق موهبته، هو الذي يقاتل من أجلها كل يوم" وقد رأى تشيكوف ذلك وشرحه في رسالة إلى صديقه سوفورين ذات مرة حين قال: "على كُتاب القاع أن يحصلوا في شبابهم ما حصله الكتاب الأرستقراطيون في طفولتهم" فالموهبة عنده تمثل معركة دائمة بين الفنان وبين التخلف سواء في نفسه أو في الوسط الذي يعيش فيه، ويهتم بأن يكون الفنان غاية في الإخلاص مع نفسه وهو يبدع، وأن يكون على علاقة مباشرة وطيدة مع أعماقه، لأن أجمل ما في الفن الإخلاص والبساطة.

ويردد تشيكوف كثيراً أن: "الموهبة هي الشجاعة" لأن الجبن برأيه لا ينتج فناً بل مرضاً يلبس مسوح الفن، "والموهبة هي الحرية" و "الموهبة هي التحرر من العواطف البدائية" "والموهبة هي العمل" وهي "قوة واحتمال" لهذا لم يكن تشيكوف يشكو لأنه يرى في الشكوى انتقاصاً من القدرة على العمل والإنتاج، ويرى أن الفن يتطلب من الفنان خصائص شخصية ممتازة وتضحيات لا حصر لها، فكان يعتقد أن على الكاتب أن ينمي في نفسه ملكة الملاحظة بلا كلل ويجعل منها عادة فيه وطبيعة ثانية، كما كان يرى أن الموهبة تضم بين عناصرها الالتزام نحو الشعب ونحو قضية الفن، والثقافة في وطن الفنان لأن الموهبة القوية تتضمن إحساسا قومياً بالالتزام كما يرى تشيكوف، كما يربط بين الموهبة والقيم الأخلاقية ربطاً محكماً لأن الإبداع الأصيل والخلق برأيه هما جناحا الفن الحقيقي، وتنمية القيم الخلقية عنده ترادف تنمية المعرفة بالثقافة والحياة دعامتان لا غنى لإحداهما عن الأخرى. كما يقول عن الموهبة في واحدة من قصصه: "إن الموهبة قوة أصيلة كالغرائز، كالإعصار، تستطيع أن تسحق الصخر تراباً وأن تخلق كل شيء وأن تدمر أي شيء، إنها قوة رهيبة إن لم تصاحبها مشاعر إنسانية سامية"

والفنان الحق برأيه إنسان متحضر مهذب يكره الكذب كما يكره الطاعون، ويضحي من أجل موهبته بالأمن الشخصي والحب والخمي، حتى لا يفقد انتباهه لحظة، كما يضحي بالكبرياء، وهو شخص معتز بموهبته، واع ومثقف ومؤثر، ويعرف ثمن كل ساعة من حياته جيداً.

الروسي مكسيم جوركي وتجميل المأساة:

لفت انتباهي في مكان غير كتاب لعبة الأدب أن كلمة جوركي أو غوركي بالروسية تعني (المُرّ) وأربطها بالمأساة التي لطالما حاول تجميلها مكسيم في أدبه، فكان الأدب هو وسيلة مكسيم جوركي لكي تبدو مأساة الإنسان في ثوب قشيب، حيث قال ذات مرة في مقدمة كتاب روسي عن الأدب الأجنبي: "إنني أدين للكتب بكل ما هو طيب في نفسي، حتى في صباي أدركتُ أن الفن أغزر سخاءً وكرماً من الناس، إنني متيم بالكتب، كل كتاب هو عندي معجزة وكاتبه يبدو لي ساحراً... إن الجمال شيء يخلقه الإنسانُ من أعماق ذاته. ومن هنا فإن الفنلندي يحي المستنقعات والغابات والصوان الكالح إلى مشاهد جميلة، والعربي يقنع نفسه بأن الصحراء طيبة، إن الجمال يولدُ في مكابدة الإنسان في سبيل تأمل الجمال"

والأدب كان دوماً برأي جوركي عبارة عن عملية تجميل للحياة، بالنسبة للفنان والجمهور على السواء. وعملية التجميل تلك تدفع إلى احتمال الحياة والبحث عن وسائل تغيرها لتصبح أجمل، لتقترب بإرادة الإنسان من خيال الفنان، والأدب هو محاولة لدفع الحقيقة إلى وصف الخيال، عن طريق تجسيمه في عمل فني.

النمساوي آرنست فيشر ووظيفة الفن والأدب:

الشعر ضروري، وليتني أعلم لماذا! بتلك المقولة لجان كوكتو بدأ مقاله فيشر ليتبعها بسرد مجموعة من محاولات تحديد وظيفة هاتين اللعبتين: الأدب والفن. والحقيقة أنني وجدتني أنجذب دون شعور لرأي موندريان الذي يقول أن الفن هو بديل الحياة المعقول، ووسيلة الإنسان لخلق توافق بينه وبين العالم من حوله، لكن حين يتساءل فيشر هل يمكننا اعتبار تلك الظاهرة التي تثير الدهشة والعجب أن تكون مجرد بديل؟ تثور مجموعة كبيرة من الأسئلة ويجيب فيشر تباعاً على أغلبها. ليكشف بحثه وتساؤله عن أن للفن والأدب وظيفة مزدوجة، فهو يدمج الفرد في الواقع ويمنحه القدرة على التحكم فيه معاً، وثمة للفن وظيفة اجتماعية تختلف من عصر إلى عصر، ولكن تظل للفن مع ذلك قوة الدوام والتأثير لأنه يتضمن ذلك الجوهر البشري الذي يتخطى حدود الزمان والمكان، فالفن كما يعتقد جوركي هو لحظة تاريخية ولكنه أيضاً لحظة بشرية تتجاوز العصر الذي أنتج العمل الفني، وهذا هو الذي يفسر تأثرنا بقطعة نحت مر عليها بضعة آلاف من السنين.

يعتقد غوركي أن الفن بدأ كنوع من السحر وهو سحر وظيفته السيطرة على جنين العالم والديانة والفن، وقد أصبحت مهمة الفنان أن يثير الحياة في عمل الناس ليغيروا الدنيا، بينما سيظل في فنه أثر الساحر القديم.

الإنجليزي إدوارد فورستر والزمن المهم جداً:

يقول فوستر: "إن سلاح الانتظار والترقب هو السلاح الأدبي الوحيد الذي يخضع له الطغاة والمتوحشون" ويسرد الكاتب جزءاً من فصل الحكاية في كتاب فورستر عن فن الوراية، حيث يعلق فيه على قيمة الزمن في الكتاب الأدبي الشهير ألف ليلة وليلة حين تحكي شهرزاد الحكايا وتتبعها بجملة: "بعد ذلك" يقول فورستر: "يا لها من عبارة سحرية، فإن الإنسان يحب أن يعلم دائماً ما حدث بعد ذلك، لتتصل النهاية بالبداية، وهذا الشغف بالحكاية شغف بشري قديم وشامل ومعاصر ومستمر، ولهذا فإن الحكاية هي حجر الزاوية للرواية، كلنا نطلبها لأنها غريزة فينا، والحكاية هي أن تحكي أحداثاً تجري خلال تسلسل الزمن، والحكاية الناجحة هي التي تجعل السامع أو القارئ شغوفاً بمعرفة ما حدث بعد! وعليه فإن الإحساس بالزمن يمثل حجر الزاوية لأي رواية وهذا ما تكفله الحكايا الحكيمة، ففي كل رواية ينبغي أن تكون هناك ساعة دقاقة، ولأن المؤلف قد يكره الساعة التي تنبهه إلى الزمن، كانت هناك محاولات للتحايل على الزمن بمراوغته والعبث بقوانينه أو بقتله، إلا أن كل تلك المحاولات مضادة للجذور وللجوهر الأساسي الذي يسري خلال الرواية وهو تسلسل الحكاية"

ويسرد فوستر في هذا الإطار الكثير من الأمثلة من الكتاب الكبار مثل إميلي برونتي وتولستوي وتجاربهم مع الزمن صعوداً وهبوطاً، إلا أنه في النهاية يعود ليؤكد ما يعتقده بقوله: "إن في الرواية عرقاً بدائياً، لأنها تعود إلى حياتنا الأولى، قبل اختراع الكتابة والقراءة، ولذلك فإن عصبها الأساسي هو الحكاية التي تمضي بالأحداث متسلسلة عبر الزمن" مشيراً إلى أن الزمن قد يحرم من يتجاوزه من روايته وهذه باعتقادي أخطر ما يمكن أن يفعله الزمن!

وأخيرا، اللعب بين البراكين:

يعود بنا الكاتب العربي فتحي خليل والذي قام بتجميع كل تلك التجارب وعصرها ليشربها الكاتب الناشئ زلالاً فلا يظمأ بعدها إلا للانطلاق، ولا يشبع إلا من سلسلة تحقيق الطموح، يعود ليخبرنا أن ما قدمه ليس أكثر من التربص بخيط أراد أن يسري في أعصاب القارئ والأديب الناشئ، وقد أمسك به وها هو يقدمه بسيطاً عميقاً/ آمناً خطراً: "هذا الخيط هو أن الأدب لعبة ليست سهلة، وأن النظرية التي كانت توحي بأن الأدب ملكة توهب دون عناء قد تراجعت إلى الأبد، وأن الفنان الذي يزعم أنه من أولئك المحظوظين الذين يهبط عليهم وحي بغير مقدمات؛ هو فنان يحاول - على سبيل الدعاية – أن يكتم سر الصنعة!، وقد أصبحت اللعبة الآن أكثر صعوبة وأشد خطراً من ذي قبل، ويمكن القول أن اللعبة أصبحت تمارس على أرض بركانية وعرة، محاطة من جميع جوانبها ببراكين بعضها يقذف بالحمم وبعضها راكد ركوداً كاذباً، ويمكن القول أيضاً أن أرض اللعبة قد اتسعد، كلما زاد عدد اللاعبين زيادة مذهلة، إن كلمة التراث التي كانت تحمل لأديب القرن الرابع الهجري عدداً محدداً من الكتب، المختارة أو المرشحة من القائمة، أصبح تعتبر الآن بحراً زاخراً من المصنفات الفكرية، كما أن عالمية الحلبة أضافت عبئاً جديداً على الذين يدخلونها، لقد أصبح العالم هو حلبة الأديب المعاصر، وعليه أن يتحمل عبء اتساع رؤيته لتشمل – بقدر طاقته – ما هو جديد في الحرفة، كما أصبح عليه أن يشقى لكي يتميز صوته بين زحام اللاعبين، ولقد تداخلت الفنون جميعاً بحيث لم يعد مفر للأديب من أن يكون له موقف لأن أحداث الدنيا ستطرق بابه حتى لو لجأ إلى كهف جبليّ، وسوف يضيف ذلك إلى اللعبة مزيداً من العرق وأحياناً مزيداً من الدم"

ويختم فتحي خليل كتابه بقصيدة تناسب موضوع الكتاب من مسرحية ادمون روستان على لسان الشاعر سيرانو عن طبيعة الفنان، وعقب عليها بسرد قصص وتجارب لمشاهير الكتاب العالميين وكيف قضوا نحبهم، ثم ليعلق قائلا: "إن الأديب مناضل على وجه من الوجوه، تتفاوت درجة الفدائية فيه، ولكنه مناضلٌ على أية حال!"

حين أحث نفسي على تقديم جزيل الشكر لمن أوصل هذا الكنز إلي يدي ذات يومٍ، وجعلني أقرأه وأستفيد منه كثيراً، وأضمه إلى مكتبتي بل وأتخذ على شف قراءتي له قرارات عدة، لا يفوتني أن ألوم عليهم – لوم المحب من باب حب اللغة العربية والخوف عليها من أن تطغى الكسور والسقطات اللغوية والنحوية فتطمس الصورة البهية الجليلة لروعة تلك اللغة - أن كتاباً قيماً ومهماً كهذا الكتاب يعاني من الكثير من الأخطاء الإملائية والنحوية، وأهيب بهم أن يعيدوا تدقيقه ومراجعته على أيدي متخصصين، لتكتمل اللوحة وتصل الصورة بشكل أبهى وأجمل.

وإنني أخيراً إذ أعتز بهؤلاء الشباب الذين وعوا قيمة الأدب وأدركوا أهميته في تأريخ المراحل وتصوير الحضارة صوراً تخلد على مر التاريخ، لا أختم قبل أعلق أمنيتي الدائمة على بوابة وختام هذه القراءة السريعة لكتاب لعبة الأدب بأن أرى الكثير من كتاب العرب الشباب متقلدين أسمى وأعلى قمم الأدب العالمي ذات يومٍ ليتعلم منهم الجميع وتفخر بهم اللغة والأمة، فيمسحوا الغبار الذي ابتعد أوان كنسه وإظهار الوجه المشرق للحضارة العربية والإسلامية شمساً لا يحجبها غمام.

بقلم/ سماح ضيف الله المزين

غزة – فلسطين

الخميس 18 أبريل 2013م

Facebook Twitter Link .
4 يوافقون
10 تعليقات