ميرامار > مراجعات رواية ميرامار > مراجعة مروان خميس

ميرامار - نجيب محفوظ
تحميل الكتاب

ميرامار

تأليف (تأليف) 4
تحميل الكتاب
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
4

حَقَّ القولُ على أدِيْبِ مِصْرَ الْجَلِيل " نجيب محفوظ " بأنه هُوَ رائدُ الرِّوايةِ العربية الحديثة ، فقد بَعَثَها بأفكاره مِن مَنِيَّتِها مانحًا أياها حياةً جديدةً ، و مستقبلًا رغدًا لفنٍ كامل من فنون اللغة العربية .

فمرة أخرى تتجلَّى عبقرية " الأديب المفقود " في رائعةٍ من روائع الأدب العربي ، ألا و هي رواية "ميــرامـــار"، الميرامار... رواية درامية هي الأولى من نوعها ، ففي مضمونها تحكي أحوال المجتمع المصري إبّان فترة حرجة مرت بها البلاد بعد ثورة 52 يوليـو و قبل النكسة ، و على هذا فإنه يمكن قراءتها على الجانب السياسي أيضًا .

أحداث الرواية إجتماعية بحتة أخذت من بنسيون " ميرامار" مسرحًا لتدور فيه ، ذلك البنسيون الذي أكل عليه الدهر و شرب ، و الذي بعدما كان بنسيون السادة و البشوات أصبح نزلًا غابرًا يستقبل كل من هب و دب إليه فقط ليبقى على قيد الحياة !

و أتخذت أبطالها من أناس مختلفين هم .. لا يكاد يعرف أحدهم أحدًا ، فقد جمعت الأقدار بين أولئك الشخصيات الذين تعددوا من بين أعمار و بيئات و إتجاهات مختلفة ، و كأنهم قد اختيروا مندوبين من قبل فئات الشعب ليمثلوهم داخل هذا المكان الذي عفا عليه الزمن .

و لكن تكمن العبقرية الكبرى في أنه لم يجعلها كغيرها من الروايات السالفة التي هدفها الإمتاع أو كسجل تاريخي يملي فيه أحداث العصر فحسب مثل " زقاق المدق " أو" رادوبيس " ، إنما جعلها رواية ملأى بالرموز ، غزيرة الوصف ، شاملة لجوانب الحياة قاطبة لذلك العصر ، علاوةً على الأسلوب الحديث الذي اتبعه " نجيب محفوظ " في سرد أحداث " ميــرامـــار " و هو أول ما يجب أن نتوقف عنده لفهم محاور تلك الرائعة .

" الحقيقة أكبر من أن يدركها عقل واحد " ... ذلك كان نهج " محفوظ " المتبع في سرده لأحداث الرواية متمرّدًا بذلك على الأسلوب المألوف في السرد ، فرغم أن أحداث القصة محدودة إلا أنها تفاوتت على أكثر من لسان كل منهم يرويها بمنظوره الخاص و كأن الأمر أشبه بالإعترافات ، فتكمل أحاديث بعضهم بعضًا في منظومة ليست بالصعبة ، تمكن القارئ في النهاية من رؤية الحقيقة كاملة .

هذا و قد برع الكاتب في تقمص كل شخصية على حدة ، و أن يجعل الحوار صادقًا غير مفتعل ، يشعرك شعورًا حقيقيًا بالشخصية و إتجاهاتها و إختلافها بين البقية ، فلا تجد تنافرًا بين الشخصية و حواراتها على مدار الرواية ، و على سبيل المثال فنحن نستطيع أن نرى ذلك بجلاء في تضارب كل من رأيي " عامر وجدي " و " حسني علام " في وصف مدينة الإسكندرية ، فيقول الأول في بداية حديثه : " الإسكندرية قطر الندى ، نفثة السحابة البيضاء ، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء ، و قلب الذكريات المبللة بالشهد و الدموع " .

بينما يصفها الآخر على نحو مظلم تميَّز عن الأول كليًا فيقول : " وجه البحر أسود محتقن بزرقة ، يتميز غيظًا . يكظم غيظه . تتلاطم أمواجه في إختناق . يغلي بغضب أبدي لا متنفس له " . و كذلك حال باقي الشخصيات .

و من الجدير بالذكر أن الكاتب لم يجعل القصة تعتمد كليةً على البنسيون ، أي تبدأ ببدء إقامتهم فيه و تنتهي حالما يهجرونه ، بل أخذ يدس القليل من ذكريات ماضيهم بين طيات الحديث . لا شك أن بعض هذه الذكريات كانت مبهمة الفهم ، و لكنها ساعدت على فهم القصة بشكل أكبر ، بشكل يعمق انطباعك عن الشخصية و طريقة مجيئها على هذا النحو . كما هو الحال مع " منصور باهي " و ماضيه المؤلم .

أخيرًا أستطيع الجزم بأن أكثر ما يروق القارئ – أي قارئ – هو الوصف الدقيق لمدينة الإسكندرية .

فها هو " محفوظ " يبدع مجددًا ... ذلك الفنان الرائع ، الذي استطاع أن يرسم لعروس البحر الأبيض صورة حية تنبض بقلمه ، فسواء كنت من سكان الإسكندرية أو لم تزرها قط ، فإنك تستطيع رؤية المدينة جليةً بدءًا من فنجان قهوة في التريانــون إلى حفلة الثالثة في سينما مترو ! . و من الغرب بدءًا من أنطونيادس مارًا بالإبراهيمية .. ليدو الأزاريطة و سيسل الرمل نحو الشرق منتهيًا عند باستوريدس .

و لم يقتصر وصفه على أحياء الإسكندرية و مآثرها فقط ، بل راح يصف شتاء الإسكندرية أيضًا . و أجمل به وصفًا ! يكاد يخلق حولك برودة الشتاء أو يشعرك بقطرات المطر تتساقط عليك و أنت جالس تقرأ ! .

ذلك من كثرة ما نعته في غير موضع و في غير رؤية ، فالمطر يعزف على النوافذ عند " علام " و ينقش رذاذه الزجاج بالغبش لدى " باهي " و يغسل شعاعًا ذهبيًا يتلقاه " وجدي " بإمتنان ! .

و لكن هنالك دومًا كبوة لكل جواد ! .. فقد خان الوصف محفوظًا في عدة نقاط ، استحالت فيها عروس البحر الأبيض إلى بائعة من بائعات الهوى ! ، فما من مكان تذهبه إلا و تجد فيه قوادة تدلك على الفاحشة ، و إن لم تجد ... فما أكثر بنات الليل ! . كأنها بلدةٌ غربية لا شرقية !

إنما الحق كل الحق أن الإسكندرية لم تكن يومًا بهذا الكم من الفحش حتى في عصر الإستعمار ، و لكن ربما أراد محفوظ أن يتطرق لما هو باقٍ من عادات بغيضة رسخها الإستعمار في مجتمعنا الشرقي .

ففي أكثر من مرة كان " حسني علام " يجتاح الشوارع في سرعة مفرطة بحثًا عن متنفس لنزواته اللا متناهية ، سواء التقط فتاة من بوفيه السينما أو صالون الحلاق ، أو دلته عليها قوادة من إحداهن ، معتبرًا جميع النساء حريمًا متنقلاً لمزاجه على حد قوله ! غير مكترث لشئ و لا يعرف عن دينه إلا أن الله غفور رحيم !

كذلك حال " البحيري " هذا ، يقضي عمره في شقة إمرأة لاهية من نساء الجنفواز ، و ها هو " طلبة " - ذلك الهرم الذي أصابه ما أصابه من الأمراض – يقضي ليلة رأس السنة محاولًا بفشل إحياء الماضي مع العجوز ماريانا ! . ناهيك عن تجرعهم الخمر تجرعًا بمن فيهم " عامر وجدي " الذي عاد لدينه أخيرًا ! .

" جميع من حولنا يتصرفون و كأنهم لا يؤمنون بأن الله موجود " .. جملة صاعقة قالها الكاتب لتنبه الكثير الذين هم في غفلة من أمرهم كحال " علام " ، و ما يؤكد قصد نيته هو سؤال " عامر وجدي " الذي وجهه لطلبة " يخيل إلي أحيانًا إنك لا تؤمن بشئ " ، و لما أجاب بادر مجددًا بقوله " لقد خلق أمثالك للجحيم ، لن يبارك الله لك في شئ ، أخرج مطرودًا من هذا المكان الطاهر ، كما طرد إبليس من الجنة " .

و لمن الملفت للنظر أن " ميرامـار" قد كتبت وقتما كان " محفوظ " مهتمًا بالإتجاه للرمزية في مشواره الأدبي ، و من ثم فنحن لا ينبغي لنا أن ننظر إليها من منطلق أنها قصة حب عادية بين رجل و إمرأة ، فإن فعلنا لفاتنا الكثير من الرموز التي أراد أن يوصلها إلينا الكاتب بطريقة ما .

و يقينًا – إن كنت تقرأ بعين الإعتبار - فإنك ستلحظ الكثير من التلميحات المختبئة بين ثنايا السطور ، و أول ما قد يتبادر إليك ، هو إحساس صادق بأن محفوظ ما كان يقصد رمزًا من " بنسيون ميرامار " إلا الوطن الكبير الذي يظل أبناءه تحت سقف واحد و إن إختلفوا في معانيهم .

فالجميع هناك ليسوا من الإسكندرية ، و إنما لجأوا إليه من مدن شتى عندما تدهورت بهم الأقدار ، لعلمهم علم اليقين بأنه ما من خافض لهم جناحه إلا الوطن ! .

بل يمكن أن تلمح في كل صغيرة و كبيرة إشارة أيضًا ، بدءًا من " عامر وجدي " الذي يتمثل فيه الماضي ، فلا قوله يؤثر في الحاضر أو يغيره ، فقط .. يظل يتغنى بماضيه التعس تاركًا كل ما هو آتٍ بغير إكتراث ! و لما أتيحت له الفرصة بإدلاء رأيه في شأن زهرة تجنبها بقوله " فكري يا زهرة و أختاري ! " ثم لحقه بأمنية سلبية بقوله " قلت ( أتمنى ) يا زهرة ... " .

ثم هناك تمثال العذراء الذي تختبئ وراءه تلك العجوز الشمطاء مدعية التدين لتكسب البنسيون سمعة جيدة ، أو لترجعه لأيام مجده القديم ، و تمثل هنا بذلك القوى الاستعمارية المتسترة بستار الدين التي ظلت متمسكة بمستعمراتها حتى بعد جلائها عنها !

ختامــًا ، إن تفحصنا كل تفصيلة في أدبٍ لنجيب محفوظ لما انتهينا من سرد مقاصده و لكن حسبنا قوله المتفتح البصيرة : " لو يخترع المخترعون للمعتزلين جهازًا يبادلهم الحديث و السمر، أو شخصًا الكترونيًا يلاعبهم النرد ، أو يركب لهم عينًا جديدة تولع مرة أخرى ببنات الأرض و ألوان السماء " ... و قد كان الأمر بعد سنين ، فمن يدري لربما تنكشف بعض المقاصد الأخرى تباعًا !

Facebook Twitter Link .
2 يوافقون
اضف تعليق