شارع بن يهودا > اقتباسات من رواية شارع بن يهودا > اقتباس

نص من "شارع بن يهودا"

كما عاد أسير عتليت ليلًا من سجن جديد في وطنه حاملًا انكساراته بعد أشهر من الأسر. دق دقات خفيفة بمطرقة الأسد النحاسي على الباب. احتضن طَلْع، ثم ضمنا معًا، اعتصرنا في صدره. كانت غالية تعد الماء الساخن كي يستحم. سمعتُ نهنهات بكائه الحار في الحمام، وهو يبكي وأمي تنظف جسده الذابل. لمحته يمر بجلبابه الأبيض إلى غرفة غالب، وعيناه داميتان. قبَّل غالب الممدد على سريره مغطى ببطانية صوفية لم تخف حمى ارتعاشات بدنه في احتضاره الأخير.

كانوا عشرة أشحاص يمشون في جنازة الكبير. اجتازوا الساقية المهجورة التي تسكنها جنياته، وعفاريته. داست أقدامهم المدقات الطينية إلى المقابر البعيدة في مارش صامت من هزيم كائنات غالب. عبرنا الطريق إلى مدق فرعي بين أكوام من روث المواشي، والسبخ. كنت ممسكًا بيد حسن الذي كان شاحبًا، وشعيرات ذقنه المهملة من دون حلاقة زادته قهرًا وضعفًا. أغلق اللحاد باب القبر بالطوب والأسمنت، وتلا بعض الأدعية والأوراد المكرورة عن الموتي. تمدد غالب أخيرًا على مقربة من أمينة الطيبة، وبينهما براح شاغر تركاه علَّ عز العرب يعود.

حالت قوالب الطوب الأحمر على باب القبر بين غالب وتاريخه. قرأت بصوت عالٍ "والسماء والطارق" كاملة، لم يكن حفظي للقرآن سيئًا هذه المرة. ناديت بصوت مكتوم:

هل تسمعني يا جداه؟ سأتذكرك كما أتذكر "تبارك، وقد سمع". سأتذكرك كلما آلمتني كتفي التي ألهبتها عصاك. سأحكي للناس قصة ميت كردون والفرنسيس. سأحكي كي أرد الكرامة الضائعة لطلّة بنت الحجال، ونُعمان بن الفخار، وأولادهما السبعة. سيعرف الناس كيف شنقهم ظلمًا يوسف ابن شيخ الشيوخ، سأحذرهم من خيانة سنقر بن سلجوق آرسلان، وكل المماليك في وطني.

سأحكي عن سجون الوطن، وزنزانات الذل في كل عتليت. سأحكي حكاية عز العرب غالب، المصروع من أجل الوهم، وطموحات الساسة الأغبياء. سأتلو مقاطع من لحن المأساة كي لا يموت طرح النهر. سأحكي عن كل الذين دفعوا الثمن مقدمًا، ولم ينتظروا مقابلًا. هل تسمعني يا غالب؟ أنا علي حسن غالب، حفيدك الأعرج الذي لا يعرف إن كان بالفعل أعرج أم أن أرض الوطن لا تصلح للمشي.

الدار موحشة، وبقايا غالب غاضبة لخيانة الغياب، تختته الخشبية أمام الدار، منشته، صندوق دخانه المعدني، نظارة أيامه الصعبة، مصحفه، جلبابه المُعلق على مشجب قديم. نتكور أنا وطَلْع في ركن ناظرين إلى طعام زهدناه. أحكم إغلاق مزلاج الباب لأخلو إلى صناديق عز العرب، الكتب الكثيرة، إرثه، الذي شكل سنوات عمري. كيف امتلك كل هذا الشغف، وقرأ كل هذه الكتب في عمره القصير، ثم تركها ليلبي نداء عبد الناصر؟

مشاركة من أمينة سعيد ، من كتاب

شارع بن يهودا

هذا الاقتباس من رواية