يقول مالك ابن دينار كنت مدمنًا على الخمرفبينما انا يوماً اجول في السوق❞ إذ رأيتُ اثنين يتخاصمان،وقد لَبَّب أحدهما الآخر، فأخذتُ إليهما، فسمعتُ المظلوم يقول للظالم: لقد سلبتني فرحَ بُنَيَّاتي، فسيدعون الله عليك فلا تصيب من بعدها خيرًا، فإني ما خرجتُ إلا اتباعًا لقول رسول اللهﷺ: «من خرج إلى سوق من أسواق المسلمين، فاشترى شيئًا، فحمله إلى بيته، فخصَّ به الإناث دون الذكور؛ نظر الله إليه.» قال الشيخ: وكنتُ عَزَبًا لا زوجة لي، ولكن طمعتْ في دعوة صالحة من البُنَيَّات المسكينات، إذا أنا فرحتهنَّ؛ ودخلتْني لهنَّ رقة شديده
فأخذتُ للرجل من غريمه حتى رضي، وأضعفتُ له من ذات يدي لأزيد في فرح بناته، وقلت له وهو ينصرف: عهدٌ يحاسبك الله عليه، ويستوفيه لي منك، أن تجعل بناتك يدعون لي إذا رأيتَ فرحهنَّ بما تحمل إليهنَّ، وقل لهنَّ: مالك ابن دينار
وبِتُّ ليلتي أتقلَّب مفكرًا في قول رسول اللهﷺومعانيه الكثيرة، وحثِّه على إكرام البنات، وفكَّرت حينئذٍ في الزواج، وعلمتُ أن الناس لا يزوِّجونني ما دمتُ من الخبيثين؛ فلما أصبحتُ غدوتُ إلى سوق الجواري،فاشتريت جارية نفيسة، ووقعتْ مني أحسنَ موقع، وولدتْ لي بنتًا فشُغفتُ بها، وظهرتْ لي فيها الإنسانية الكبيرة فلما دبَّت على الأرض ازددتُ لها حبًّا، وأَلِفَتْني وأَلِفْتُها❞ وكلما كَبُرَتْ كَبُرَتْ فضليتي، فلما تَمَّ لها سنتان، ماتت!
قال الشيخ: فأكمدني الحزنُ عليها، ووهن جأشي،ولم يكن لي من قوة الروح والإيمان ما أتأسَّى به، فضاعف الجهل أحزاني، ❝
قال الشيخ: ورجعتُ بجهلي إلى شرٍّ مما كنتُ فيه، فلما كانت ليلة النصف من شعبان — وكانت ليلة جمعة، — سوَّل لي الشيطان أن أَسْكَر سَكْرةً ما مثلها؛ فبِتُّ كالميت مما ثمِلتُ، وقذفتني أحلام إلى أحلام، ثم رأيتُ القيامة والحشر وقد وَلَدَتِ القبورُ مَنْ فيها، وسيق الناس وأنا معهم، وسمعتُ خلفي زفيرًا كفحيح الأفعى، فالتفتُّ فإذا بتنين عظيم ما يكون أعظم منه؛ طويل كالنخلة السَّحُوق، أسود أزرق، يُرسِل الموتَ من عينيه الحمراوين كالدم،
وفي فمه مثل الرماح من أنيابه، ولجوفه حرٌّ شديد لو زفر به على الأرض ما نبتت في الأرض خضراء، وقد فتح فاه ونفخ جوفه وجاء مسرعًا يريد أن يلتقمَني، فمررتُ بين يديه هاربًا فزعًا؛ فإذا أنا بشيخ هرم يكاد يموت ضعفًا، فقلتُ أجرني وأغثني فقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن مُرَّ وأسرع، فلعلَّ الله أن يسبِّب لك أسبابًا للنجاة فولَّيت هاربًا وأشرفت على النار وهي الهول الأكبر، فرجعتُ أشتدُّ هربًا والتنين على أثري؛ ولقيت ذلك الشيخ مرة أخرى، فاستجرتُ به فبكى من الرحمة لي وقال: أنا ضعيف كما ترى، وما أقدر على هذا الجبار، ولكن اهرب إلى هذا الجبل، فلعل الله يُحدِث أمرًا فنظرتُ فإذا جبل كالدار العظيمة، له نوافذ صغيره عليها سُتُور، وهو يبرق كشعاع الجوهر؛ فأسرعتُ إليه والتنين من ورائي، فلما شارفتُ الجبل فُتحتِ النوافذ ، ورُفعتْ الستور، ❞ واشرفت عليَّ وجوه أطفال كالأقمار، وقرُبَ التنين مني، وصرت في هواء جوفه وهو يتضرم عليَّ، ولم يبقَ إلا أن يأخذني؛ فتصايح الأطفال جميعًا: يا فاطمة! يا فاطمة! قال الشيخ: فإذا ابنتي التي ماتت قد أشرفتْ عليَّ، فلما رأت ما أنا فيه صاحت وبكت، فجاءت بين يدي، ومدَّتْ إليَّ شِمالَها فتعلَّقت بها، ومدَّتْ يمينها إلى التنين فولَّى هاربًا، وأجلستْنِي وأنا كالميت من الخوف والفزع، وقعدتْ في حجري كما كانت تصنع في الحياة، وضربتْ بيدها إلى لحيتي وقالت: يا أبتِ …﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾؟ فبكيْتُ وقلتُ: يا بُنَيَّة، أخبريني عن هذا التنين الذي أراد هلاكي قالت: ذاك عملك السوء الخبيث، أنت قوَّيتَهُ حتى بلغ هذا الهول الهائل، والأعمالُ ترجعُ أجسامًا كما رأيتَ.
قلت: فذاك الشيخُ الضعيف الذي استجرتُ به ولم يُجِرني؟ قالت: يا أبتِ، ذاك عملك الصالح، أنت أضعفتَهُ فضعُف حتى لم يكن له طاقة أن يغيثَك من عملك السيئ؛ ولو لم أكن لك هنا، ولو لم تكن اتَّبعت قول رسول اللهﷺ فيمن فَرَّح بناته المسكينات الضعيفات، لما كانت لك هنا شِمالٌ تتعلَّقُ بها، ويمينٌ تَطْرُدُ عنك ••• قال الشيخ: وانتبهتُ من نومي فزعًا ألعنُ ما أنا فيه، ولا أراني أستقرُّ، كأني طريدة عملي السيئ؛ كلما هربتُ منه هربتُ به؛ وأين المهرب من الندم❞ الذي كان نائمًا في القلب واستيقظ للقلب؟! ❞ وأمَّلت في رحمة الله أن أربح من رأس مال خاسر، وقلت في نفسي: إن يومًا باقيًا من العمر هو للمؤمن عُمْرٌ ما ينبغي أن يستهانَ به؛ وصحَّحت النية على التوبة؛ لِأُرْجِعَ الشبابَ إلى ذلك الشيخ الضعيف، وأسمِّنَ عِظَامَه، حتى إذا استجرْتُ به أجارني ولم يقل: «أنا ضعيف كما ترى!» وسألتُ فدُلِلتُ على أبي سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، سيد البقية من التابعين؛ وقيل لي: إنه جمع كلَّ علم وفن إلى الزهد والورع والعبادة، وغدوتُ إلى المسجد والحسن في حلقته يقصُّ ويتكلم، فجلستُ حيث انتهى بي المجلس، ❝يقول الشيخ: ثم إني تبتُ على يد الحسن، وأخلصتُ في التوبة وصحَّحتها
وحي القلم > اقتباسات من كتاب وحي القلم > اقتباس
مشاركة من المُتفائِل
، من كتاب