أحبائي
أستاذنا الزميل الأديب الكبير يحيي حقي
عمل جميل
ماذا كان رأي القرّاء بكتاب سارق الكحل؟ اقرأ مراجعات الكتاب أو أضف مراجعتك الخاصة.
«سأجرب هذا الصراع المهول بين الامل في الحياة، لا يتزحزح كالصخرة، وبين دبيب عزرائيل عن يقين خطوة خطوة نحوي، سأجرب شعوري بالفرح حين ينفتح الباب فأرى أن فتحه لم يكن إلا لدفع صحنٍ إليَّ، وشعور الرعب حين أرى أن انفتاحه ذات مرة هي بداية السير إلى حبل المشنقة، سأجرب كيف تنطلق من جوفي كله صرخة هي منذ الازل عذاب الإنسانية، ولماذا لا يعود الزمن إلى الوراء؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا ونحن نقدر أن نمده فنمضي به قُدُمًا إلى أمام لا نقدر أن نسحب ما مضى منه، ونكر معه إلى الوراء؟ لماذا كل ثانية، كل نفسٍ يتردد، كل رعشة جفن، هي خبطة باترة من بلطة لا ترحم، لو هوت على جبل الجرانيت لشقته؟ هل حياتنا إذن ما هي إلا فتات إثر فتات؟ أرأيت إذن كم من تجربة فذَّة سأعهدها؟ وأين؟ في حياتي الوادعة المسالمة تجد روحي مثل هذه الذبذبات الدسمة، نحو حافة الخطر، نحو قلقلة الحجر الصغير تحت أقدامنا، وهي تستند عليه، ونحن نتسلق قمة الجبل الشاهق، ما أشهى طعم الموت ونحن في حضن الدفء أحياءٌ، ونظل بعد تذوقه أحياءٌ» ... هذه الفقرة من القصة الأولى بعنوان "كأن" من هذه المجموعة القصصية الرائعة للعظيم يحيى حقي.
قدَّم يحيي حقي قدرًا عاليًا من التمكن الأدبي من حيث اللغة وتطور الأحداث، إضافة إلى المحتوى الفكري القيم والفلسفة المتجلية في أحداث القصص وخاصة القصة الأولى "كأن"، وخلال القراءة يصطدم القارئ بالصور البيانية الغريبة والتي استوحاها الكاتب من البيئة الفقيرة، تلك الصور التي عززت إحساس القارئ بالغرق في غياهب قصة غامضة، كما أن الكاتب وظَّف الألفاظ العامية ليعكس الحياة اليومية والعادات بل وأيضًا المشاعر الغريبة التي تعتمر في نفوس الشخصيات، أما مهارات يحيي حقي في تسلسل الأحداث فقد تجلت عند نهاية القصة، حيث كل لفظ وصورة وحدث كان كقطعة الأحجية التي يجمعها القارئ ليتشكل عنده فالنهاية صورة كاملة، غير أن الصورة كانت مظلمة وحزينة وتعكس واقع مخيف ومظلم لا يعرفه الكثيرون.
ويبدو أن يحيى حقي قرر فجأة أن يدخل موسوعة الأرقام القياسية في أكبر عدد من التشبيهات في قصة قصيرة واحدة وهي القصة الأولى "كأن"... فكل جملة لا تخلو من تشبيه، ومع مرور الكلمات يشعر القارئ بأن التشبيهات تجتمع لتنتج سياق رائع، وهذا أكثر ما أعجبني في هذه القصة، وأيضًا وجدت فيها عددًا من التساؤلات التي تدل على فلسفة يحيى حقي في هذه القصة، وهي أكثر قصة أعجبتني.
تحتوي هذه المجموعة القصصية على أربعة قصص قصيرة: (كأن، سارق الكحل، المرأة المسكينة، الفراش الشاغر)، اجتمعت معًا لتكوّن مجموعة قصصية من أجمل ما يكون باستثناء الهبوط في القصة الأخيرة من حيث المغزى والهدف والأسلوب، وأثق تمامًا أنه لو لم تكن القصة الأخيرة معهم لكنت أعطيت هذه المجموعة القصصية تقييمًا كاملًا، ويعرض يحيى حقي من خلال قصصه بعض الأمور والتساؤلات مثل الحديث عن القدر وعن الحزن وكيف يمكن أن يصبح جزءًا من الحياة مثله مثل الفرح... فالحياة عبارة عن أفراح وأتراح، وعاجلًا أو آجلًا الحزن يموت كما يموت الفرح أيضًا... وكيف تتحول حياة الإنسان من حالة إلى أخري دون حسبان؟ ... هل الظروف هي التي تؤثر على أفعال الإنسان؟ أم الإنسان فقط ينتظر الفرصة لتظهر حقيقته؟
وقد عكس يحيى حقي بعدًا آخر من أبعاد المجتمعات الفقيرة في القصة الأولى "كأن" كحي "زينهم" وهو الأسرة، حيث وَضَّح خلل النظام الأسري من عنف الأب مع ابنه الأكبر وحنانه على الصغير رغم أنه مجرم وسارق كبير، ومبالغة أمه في دلاله وإهمالها أخيه، ثم ليقر بشاعة التفرقة بين الأبناء، وقد عكس يحيي حقي مشاعر حقد الأخ الأكبر على المجرم، تلك المشاعر التي أطلق الأخ لها العنان بعد موت الأب بضرب المجرم وهو لا يزال صبيًا وإخراجه من المدرسة وهو يفصله عام واحد عن حصوله على الشهادة الابتدائية، عدَّد يحيي حقي مشاهد الاضطهاد ولعل أهمها كان مشهد سحب المجرم عاريا من قبل أخيه والذهاب به إلى قسم الشرطة، في هذا الجزء اهتم حقي بتصوير التشويه النفسي الواقع بسبب تلك الممارسات شديدة القسوة تجاه الصبي، مما جعل تحول الطفل الوديع إلى وحش مشوه النفس ذو جزء مظلم من شخصيته "التل" بحي "زينهم"، يحيي حقي استخدم هذا الحي وهذه الأسرة لكي يشير إلى كل الأحياء الفقيرة والعشوائيات وكيف يكبر الأشخاص هناك بطبيعة مغايرة لما ينبغي أن يكونوا عليه، فالنساء القاسيات قدوة الأطفال الحرامية والآباء قساة وكذلك الأمهات حيث رسم صورة مخيفة للقارئ المثقف الذي لم يعش حياة تقارب لتلك الحياة على الإطلاق، ولعله في ذلك أراد أن ينهض أحد الساسة أو المثقفون ليهتم بمنع صناعة مجرم في حي "زينهم" آخر أو في كهف بـ "التل" جديد، بدلًا من إعدام المجرم وترك العشرات يكبرون.
لعل يحيي حقي حاول عكس فساد المجتمع في تذليل الحياة أمام ضباط الشرطة بصورة خارجة عن المعتاد مقارنة بغيرهم من الوظائف، كما نوه إلى أهمية هذه النشأة في مكان مثل حي "زينهم" -وهو المكان الذي نشأ فيه بطل القصة-بعاداته وتقاليده فالتأثير على شخصية المجرم ومعتقداته، أصبح خشنًا يستلذ بسماع الألفاظ الثقيلة، بل وأصبح يملك صورة مشوهة في عقله عن النساء؛ فعلى عكس الإيمان بأن المرأة مصدر للحنان والرحمة مصبوغة بالرقة والدلال، اقترنت صورة المرأة عنده مع صورة نساء حي "زينهم" بخشونتهن وصلابتهن والقسوة والشجاعة، ولم يقف تأثير حي "زينهم" عند هذا الحد، بل ساهم في تشكيل ميول جنسية غير سوية عنده، حيث عبر يحيى حقي عن هذه الفكرة عندما وضح أن الجنس اقترن عنده مع القسوة والقبض على العنق بشدة، كل هذه الأمور اجتمعت لتكون هذه المجموعة القصصية العظيمة التي تخللتها العديد من المسائل الفلسفية والوجودية، والتقييم: 8 من 10.
يحي حقي - سارق الكحل
رغم الاسلوب الادبي اللذيذ لحقي الا انه ليس من الرفاهيات العادية كونه فكريا دوما يتناول العديد من الموضوعات في نفس اللحظة يجعله صعبا للاستيعاب مرة واحدة .. من فترة قصيرة انتشر نقاش على تويتر حول عدم فائدة قراءة الروايات والقصص وانطلقت مجموعة من الناس تقلل من قراء ذاك النوع ومن كتابه أيضاً .. فالسؤال مافائدة الأدب أو مافائدة الفن عموما؟ قد يعرف البعض الهدف منه ويتصور فهمه آخرون وستظل مجموعة تجده ( مالوش أي لازمة ) .. يحي حقي عرض بأربع قصص قصيرة فقط العديد من المشكلات المجتمعية و الإنسانية وطرح تساؤلات جمة داخل القراء عن الفقر والحزن واليأس ومعاناة المرأة بالمجتمع وحقيقة الحب ،عبر عن الإساءة للأطفال والشذوذ الفكري والجنسي بدون صور مخلة أو عبارات مستفزة ،تحدث عن الظلم ومعنى الحياة وسوء التعليم ..ف لا أعلم بعد كل هذا إذا كنا كأجيال جديدة على هذا النوع من الأدب قد تعودنا على الكلام المباشر والجدال حول جدوى كل شئ وأي شئ أم سأمنا التفكير في الرموز وماوراء التعبير ... أم السبب بكل بساطة أن أسلوب يحي حقي وهو واحد من رواد القصة العربية غير صالح للجميع.
السابق | 1 | التالي |