مولانا الطفل لـ إيمان الدواخلي: قصص تهمس ولا تصرخ.
من النادر أن تقع بين يديك مجموعة قصصية لا تطلب منك أن تفهمها، بل أن تنصت لها. لا تسعى لتقديم أجوبة، بل تزرع فيك أسئلتها، ثم تبتعد. "مولانا الطفل" ليست مجموعة قصصية بالمعنى التقليدي، بل هي أقرب إلى حالة أدبية تستدعي قارئًا لا يبحث عن الخلاصات، بل عن التورط. قصصها لا تقدم نفسها على طبق من المعنى، بل تومئ، وتلتف، وتراوغ، وتدعوك إلى لعبتها. لعبة المجاز، والاحتمال، والغرابة التي لا تنفصل تمامًا عن الواقع، ولكنها لا تنتمي إليه كليًا أيضًا.
هذه مجموعة قصصية عجيبة وغريبة. بداية من عنوانها "مولانا الطفل"، مرورًا بأسماء القصص، وصولًا إلى محتواها نفسه. ليست الغرابة هنا في كونها فانتازية أو خيالية، وإن لم تخلُ من هذا السحر الغامض الذي يذيب الحدّ الفاصل بين الواقع والمتخيل، حتى لا نعود نعرف أين يبدأ الواقع وأين ينتهي.
إيمان الدواخلي تنسج عالمًا قصصيًا خاصًا بها. عالم يسمح لها بتمرير أفكارها، أحلامها، وربما سخطها على الواقع وأهله، دون أن يُتهم خطابها بالتمرّد أو الكفر أو التجديف. ليست هناك دعوة صريحة لأي شيء، ولكنها تنجح، ببراعة، في قول أشياء كثيرة دون أن تقول شيئًا على نحو مباشر.
تنوعت القصص من حيث الطول والفكرة؛ من قصة لا تتجاوز نصف صفحة، إلى أخرى تتجاوز العشر صفحات، وفي كل واحدة منها نلمح شيئًا من الدهشة، أو المفارقة، أو الوجع.
ما يجمع القصص جميعها هو أنها لا تقول، بل تومئ. لا تصرّح، بل تترك باب التأويل مواربًا. ففي كل قصة همّ ما، قضية ما، شيء يؤرق الكاتبة، تحاول أن تقاربه بمجاز كثيف ولكنه خفيف في آن. مجاز لا يثقل اللغة، ولا يحمّل النصوص بما لا تطيق، بل يتركها كما هي: قصصًا، وحسب. لغتها واضحة في أغلب الأحيان، ولكنها تحتفظ بذلك الالتباس اللذيذ الذي يميز أدبًا لا يريد أن يُفهم بسهولة.
في قصة "لكنهم أفسدوا الريبورتاج"، لا تخبرنا الكاتبة عن المكان ولا الأشخاص. لا تصرح بشيء، ولكننا نفهم أنهم من أماكن امتلأت بالمعاناة، وأنهم هربوا حبًا في الحياة، لا أكثر. وهذا هو أيضًا دافع الصحفي الذي يحاورهم، بحثًا عن إجابات لسؤال قديم متجدد: لماذا نحب الحياة رغم كل شيء؟ الصحفي نفسه يبدّد المسافة بين المحاور والمُحاوَر، حين يكتشف أن الحكايات التي يجمعها هي مرآة لما لم يعشه بعد، ولكنه يخشاه.
وفي "نظرية التطور"، تواصل الكاتبة اللعب مع قارئها. تضعه أمام نص يمكن أن يُقرأ على مسارين مختلفين، وربما أكثر. هل تشير القصة إلى أوضاع أشقائنا في الجوار؟ أم أن فيها بعدًا رمزيًا آخر؟ لا تجيب، ولا توحي بإجابة، وتترك حرية التأويل كاملة للقارئ. وكأن القصة تطلب من قارئها أن يختبر وعيه، لا أن يكتشف المعنى الصحيح.
أما في القصة القصيرة "هابي بابا"، فتبدأ الكاتبة من افتراض بسيط: احتفال بعيد الأب. لكن شيئًا فشيئًا، تظهر الشروخ في الصورة. ليس هذا الأب كما يبدو، وليس هذا الطفل كما يظن من حوله. ثمة كذبة تكتمل معالمها تدريجيًا: كذبة "الأسرة الصغيرة السعيدة". خلف الابتسامات، وخلف الهدايا، يقبع وجع لا يصرخ، لكنه حاضر بقوة في التفاصيل الصغيرة.
وهكذا، تمضي كل قصة، مراهنة على وعي القارئ. فإما أن يرى ما وراءها، من منظور الكاتبة، أو يتوه عن قصدها، وربما – كما توحي المجموعة – لا تكون الكاتبة نفسها راغبة في تقديم "قصد" من الأصل. وهذا ما يجعل قراءة المجموعة تجربةً تتجاوز متعة الحكي، إلى نوعٍ من الاشتباك مع النص، والأسئلة التي يثيرها ولا يجيب عنها.
في "مولانا الطفل"، لا شيء نهائي، ولا إجابة واحدة. كل قصة تبدو كعلامة استفهام معلّقة، وكل حكاية تفتح بابًا لما هو أبعد من سطحها. إيمان الدواخلي لا تقدم رسائل جاهزة، بل نصوصًا تحتمل أن تُقرأ بعدة طرق، وفقًا لوعي قارئها، وتجربته، وقلقه الخاص. وفي هذا الرهان على القارئ، تكمن قوة المجموعة، وتكمن أيضًا متعتها. فهي لا تكتفي بأن تُروى، بل تطلب أن تُعاد قراءتها، لا بحثًا عن اليقين، بل عن تلك المنطقة الرمادية التي يسكنها الأدب الحقيقي.