اقتباسات خالد خليفة

كلّ ما حدث كان يجب حدوثه، سيرة طبيعيّة للوهم الّذي عاشه الجميع، الحياة في أزمنة العار والصمت الّذي عاشوه سنوات طويلة يجري الآن دفع ثمنهما، الجميع سيدفعون الثمن، الجلّاد والضحيّة، تصحيح خطأ الحياة المنافقة قد يكون ثقيلاً إلّا أنّه لا بدّ منه في النهاية.

من الصعب التخلّص من فكرة الانتقام، فكرة موت عدوّك لا تكفي لإطفاء نار الانتقام داخلك، بل يجب أن تكون قاتله لشفاء غليلك

شاهدوا الكثير من جثث أحبّتهم، والموت كان قريباً منهم إلى درجة أنّهم لم يعودوا يكترثون له.

كلّ ما يفعله كان تقليداً لحياة العائلة وتفاصيلها. شيء مؤلم اكتشاف المرء أنّه نسخة زائدة عن عائلته، يكرّر في حياته المديدة الأفعال الّتي كرهها من قبل.

كان الأب يسهب في الشرح أنّ كثيرين تحوّلوا داخل السجن من ثوّار سلميّين إلى مناصرين لأقسى أشكال العنف ضدّ النظام وجنوده، ويضيف: السجن قادر على قتلك، والشخص الآخر الّذي يخرج ليس أنت بالضرورة، رغم أنّ له عينيك وشكل تسريحة شعرك. قليلون حافظوا على رباطة جأشهم وعقلهم وأخلصوا لأفكارهم.

قبل فترة أصابه هاجس نسيان شيء قد يؤذيه، نظف منزله من أيّ شيء مشبوه، ألغى من التلفزيون تردّد القنوات "المغرضة" كما يسمّيها أنصار النظام، كقناتي الجزيرة والعربيّة، ألغى قنوات المعارضة، وضع على "القائمة المفضّلة" كلّ القنوات المؤيّدة وعلى رأسها قناة المنار والميادين التابعتان لحزب الله وقناة العالم الإيرانيّة والإخباريّة السوريّة، وناشيونال جيوغرافيك وقنوات الطبخ والمنوّعات، تأكّد عشرات المرّات من نظافة المنزل من أيّ شيء يجعله مشبوهاً.

تعجبه مهاراته الجديدة في المحافظة على حياته، رغم أنّه لا يعرف ماذا يستطيع فعله في السنوات الباقية، لا يجرؤ على الاعتراف بأنّ الحياة هي مجموعة أفعال تافهة لا بدّ ستنتهي.

في الأشهر الأخيرة لم يعد أحد يسأل عن سبب الموت وتفاصيله، يعرفونها جيداًّ، الموت تحت القصف، تحت التعذيب في المعتقلات، قتل بعد الخطف لطلب فدية، رصاص قنّاص، معركة، أمّا الموت كمداً أو بسبب خيانة الجسد لصاحبه، فهي ميتات نادرة هذه الأيّام، الموت الّذي لا يراكم غضباً لم يعد يعوَّل عليه.

لم يعد الموت فعلاً يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصاً يثير حسد الأحياء.

أدركت بعدها بأنّ النسيان إعادة كاملة لرسم تفاصيل صغيرة مختبئة في مكان ما،

❞ رجال يتجسّسون على النساء، قتلة يختفون في زواريبها، يدفعون رشاوي لدوريّات الشرطة المرتزقة ليغضّوا نظرهم عن اعتقالهم، جنود متقاعدون يبحثون عن عمل كخدم في المطاعم، وأبناء فلاّحين يحلمون بالتطوّع في جهاز المخابرات. ❝

❞ لم يعد الموت فعلاً يستدعي الانفعال، بل أصبح خلاصاً يثير حسد الأحياء. ❝

حاولنا تعلّم الصبر وبدونا جميعنا مجموعة هرمت، نتداول مفردات يستخدمها عجائز ينتظرون الموت.

أسوأ ما في الحرب تناسل الأفعال الغرائبيّة، وتحوّل القصص المأساويّة إلى حدث عادي

تساءل ببراءة عن تحوّل العطر إلى خراء، وسط جموع الجنود كان يشعر بالطمأنينة، يصدّق أنّ الجنود الأميركان سيخسرون المعركة وتنهشهم الغربان قبل وصولهم إلى بغداد.

صارخًا في جيرانه الذين يراقبون ببرودٍ: إنّ الموت حرقًا أكثر شرفًا من انتظار الموت جوعًا، سائلاً بحرقة: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة؟

امتدحَتِ النسيان، وبملل أخبرتني أنّها ستعلّم ابنها أنّ حياته تبدأ من لحظة تدميره للتوازي الذي أثقل روحي التفكير به.

مرض الحنين استبدّ بالكثير من أهالي المدينة. مجموعات كبيرة تجتمع لتتذكّر الماضي، لا يستطيعون شتم الحاضر المثقل بالخوف فيتذكّرون الماضي بنوع من التشفّي، يصمتون ويعرفون بأنّ كلماتهم المكرّرة لم تعد تثير أحدًا...

يظنّ من ينظر إليهم أنّهم يعيشون بعيدًا عن المدينة التي لم يبق لهم فيها سوى ذكريات قديمة يستعيدونها بتلذّذ، موقنين بعدم عودة الأيّام الرائعة حين كانت الشوارع مظلّلة بأشجار الكينا، وروائح الربيع ومطر الشتاء قويّة إلى درجة لا يمكن تجاهلها.

لكنّ بلبل فكّر كثيراً بأنّ المعنى الحقيقي للحبّ هو ما نفقده وليس ما نعيشه.