السيدة التي سقطت في الحفرة
"الأفك كمفردة بحنكٍ من حديد"
"الإفك مفردة بلا أسنان طالما تبلغ غايتها يصبح لها حنك من حديد"
الكثير من الكتابات تتبعت سيرة الراحلين من المشاهير والمغمورين، ذلك عن طريق جمع الشهادات وزيارة الأقارب وتجميع المقالات والنبش في الأرشيف الصُحُفي والحكومي، في كتاب " في أثر عنايات الزيات" تتبعت "إيمان مرسال" حياة الكاتبة صاحبة الرواية الواحدة من خلال الأرشيف الصحفي، وحكايات الأصدقاء وكتابة عنايات من خلال روايتها الوحيدة. وسط كل التعتيم والمحو والضياع؛ الذي طمس سيرتها.
كذلك قدمت ترجمتها "بيرة في نادي البليارد" التي تمثل السيرة الذاتية لوجيه غالي الكاتب المنتحر في لندن خمسينات القرن الماضي. في روايتها " السيدة التي سقطت في الحفرة" الصادرة عن دار الشروق حديثاً؛ تتبع إيناس حليم أثر "ميرفت احمد شحاتة" من خلال ذات الوسائل، عبر تحقيق نشر في السبعينات أجراه الكاتب مفيد فوزي، وعن طريق زيارة أقاربها وجيرانها. هذا التتبع ربما لم يفضي إلى حقيقة اختفائها؛ بل ألقى "شادن/ الساردة" في بحر من المعلومات المتضاربة. هذه المعلومات والروايات الغامضة التي يستحيل أن تَصدُق جميعها. تتعدد بين خطف الجن لميرفت وبين انهيار طيني لزج طرح جثتها بعيداً و انتهاءًا بتورط جهات سيادية في اخفاءها.
التتبع في رواية "حليم"لحكاية سيدة اختفت في ظرف غامض. إثر سقوطها في حفرة مياه بشارع النبي دانيال ومن ثم فُقِدت جثتها في السبعينات بمدينة الإسكندرية، أثناء ظرف سياسي واجتماعي ملتبس، وتباينت التفسيرات أين ذهبت تلك المرأة؟ يمكن أيضاً اعتبار الرواية رواية أجيال. عن الفتاة "شادن" التي تتقصَى سيرة المرأة المفقودة، تواجه البطلة قلقها الدائم وشغفها بالكتابة وهي تحكي عن أجيال اسرتها الثلاث.
فشادن ابنة "الكاتبة العظيمة" الأم؛ التي تكتب وتنشر وتوزع روايتها الأولى بنفسها على باعة شارع" النبي دانيال، وهو الشارع المعروف بالمكتبات في المدينة، ثم تتخبط حياتها أمامها كموجات عنيفة متلاطمة، الأم التي ترى خيانة زوجها الفنان بعينها، ثم تواجه هجره لها. وهي حفيدة لماما ماري المسيحية المتمردة التي تزوجت عبد الحافظ رضوان جد الحفيدة. وهما القادمين من أبو تيج بأسيوط.
في عائلة"شادن" كل امرأة تمثل جيلاً بعلاماته وسماته الاجتماعية والثقافية. ماما ماري تمثل الحب والتمرد والتسامح. "الكاتبة العظيمة" تمثل جيل الحلم والانكسار، أما شادن، فتمثل القلق والإصرار والابداع. مواجهةً مآسي طفولتها بين هجر الأب، تعاسة الأم، موت ابن الخالة المفجع. تواجه أشباح الحقيقة والخيال. تدفعها لكتابة الرواية أو تدفعها للبحث عن خلاص تلك الأرواح الهائمة وخلاصها الشخصي.
الأرشفة والتتبع بين الحقائق والأكاذيب:
هناك هذه الأرشفة الفنيّة التي لجأت لها "حليم" تذكرنا بأرشفة الكاتب صنع الله إبراهيم التي اعتمد عليها في رواية "اللجنة". حين سألت اللجنة التي وقف أمامها البطل. متحدثاً وراصداً عن لأهم منجزات النصف الثاني من القرن الماضي؛ فذكر"صنع الله" أن هناك أحداث كثيرة حصلت كالثورات وظهور مارلين مونرو وصعود الفضاء، لكن ربما يكون الحدث الأهم هو ظهور مشروب "كوكا كولا" وغزوها العالم. عن رمزية هذا الظهور وتطوره كمنتج ورمز هيمنة ثقافي.
في رواية "حليم" تسرد بعين سينمائية مُؤرشِفة للحياة في الثمانينات ببيت الأسرة الكبير، تحكي عن العمة "ياقوتة" بعطورها وصابونها وزيوتها. ترسم بيت الجدة بروائح طعامها "مربى خرز البقر" التي تعطيها الجدّة "ماما ماري" للطفلة الساردة شادن لتأكلها على مضض كطقس أمومي قديم لجلب الصحة، بلعبها مع أولاد الخالة" شد الكبس "و "الحجلة" بشوارع الإسكندرية وأحيائها محل الأحداث كنائسها وباعة كتبها ومقاهيها المتواضعة. وهي تفاصيل تندثر يوماً بعد يوم بفعل الزمن الذي يدفع كل الحكايات للأمام الذي ربما يكون الاندثار نفسه. الزمن الذي تمثله الساعة الرملية التي لا يقف شيء في وجه تدفق حبّاتها الذهبية للأبد..
وفي خلال بحثها في الأرشيف الصحفي تقرأ لنا "حليم" في مجلة صباح الخير عناوين تلك الفترة كسقوط طائرة ركاب مصرية، مصرع المذيعة" سلوى حجازي" انتشار ظاهرة "خلو الرجل" الغش وارتفاع الأسعار كعناوين دالة على حياة المصريين في السبعينات.
عنقود لا ينتهي من الحكايات:
تنطلق إيناس حليم في السرد بداية مسلحة بطلتها "شادن" بهدايا من الكاتبة العظيمة: قصاصة ورق صفراء، ساعة رملية، رواية عم فتاة تحب العصافير، شريط فيديو صائدة كوابيس، مجموعة أقلام. هذه الهدايا هي التمائم وخريطة الطريق التي تدفع بها الأم لابنتها للمسير في طريق انهاء الرواية. تغرق شادن/ الساردة في مجموعة من الحكايات، التي تجمعها عن طريق سماعها شفاهية، أو قراءتها من مذكرات وألسنة ابطال حكايتها، هذه الحكايات تتراوح بين الحقيقي والأسطوري. الواقعي والميثولوجي. ففي الأجزاء الأولى تقدم لنا حكاية أمها الكاتبة العظيمة من خلال الاطلاع على مذكراتها - وهنا الكتابة فعل توثيق لسير الأبطال ضد المحو، الكتابة فعل تقديم شهادة ضد. وفي مواجهة كل الحكايات الأخرى التي قد تكون كاذبة ومختلقة - الكاتبة الكبيرة/الأم تتزوج الفنان الكبير/الأب، الذي يمارس الرسم لكنه يفشل فيوجه غضبه لزوجته بالخيانة ثم الهجر، ومن خلال تلك القصة الواقعية، تحكي شادن حكايات أخرى من عنقود الحكايات المتراكبة. فالكاتبة الكبيرة تتوق لكتابة حكاية خيالية كأسطورة "بيرسيفوني" إلهة الربيع التي خطفها هاديس.
تأخذنا أيضاً لحكاية الصندوق الذي اشتراه ابوها من بائع تحف في منطقة العطارين واكتشف أن ملكيته للملكة نازلي وحملته الحياة في رحلة طويلة من مصر للوس انجلوس ثم للإسكندرية ثانية. تحكي عن قصة فرجينيا وولف قصة "المرأة والمرآة"، تقص "اسطورة بئر النحاس" التي قصتها ماما ماري عليها عن حكاية "مبيّض نحاس" من إحدى قرى الصعيد الذي خطفته الشياطين في ذلك البئر عقاباً على طرقه النحاس بعضه ببعض. ثم صهرته مع النحاس وابتلعه بالماء بالكامل.
تقول "حليم": إن كل حكاية يمكن أن تقود إلى حكاية أخرى، فالحكايات تشبه في تشعبها كثيراً شوارع المدن، حيث يمكن لشارع دائماً أن يقود لشارع آخر أو إلى زقاق أو حارةأو حتى ممر.. إذا لم يحدث ذلك؛ إذا مشينا واكتشفنا في نهاية طريق ما أنه مسدود، فيجب علينا أن نعود من هذا الطريق نفسه، وان نحرص خلال مسيرة العودة على تلمس المواضع والإشارات التي تقود للبحث عن حكاية أخرى".
وهذه الحكايات تشبه فسيفساء عملاق يمثل حياة الساردة ومدينتها.
صراع الكتابة الأكبر بين التوثيق والخيال:
شخصية راوية في الرواية - ولا نغفل هنا عن رمزية الاسم - هي صديقة الكاتبة العظيمة/ الأم، والتي تختفي شخصيتها خلف شغفها أي الكتابة، راوية سيدة متحررة في علاقة مع السيد فريد مدرس مدرسة "سان مارك" الصرح السكندري الهام. والذي تلوك سيرته الألسنة حول علاقاته بطلبة المدرسة، تخسر المرأتين الكاتبة وراوية صداقتهما وتمنع الأولى ابنتها من معرفة راوية وابنتها هند. وتجبرها على كتابة رسالة لهند بانتهاء صداقتها بها، راوية تسكن في النبي دانيال وتعرف عن الحادث، وتساعد شادن في استكمال راويتها التي لم تكملها الأم التي اعتمدت على تخيّل حياة" ميرفت" سواء فوق الأرض أو تحتها. وليس حياتها الحقيقية. الاختلاف الأساسي بين الاثنتين أن الكاتبة الكبيرة ترى أن الواقع ضيق وممل مثل قرية. وأن الخيال رحب وواسع مثل مدينة، خاصة إذا كانت مدينة تطل على البحر.. بينما ترغب "راوية" في استجلاء الحقيقة!
أهدت "راوية “صديقة الأم الطرف الخيط وهو عدد مجلة "صباح الخير" الأخير يوليو 1973 تتمة التحقيق. الي يقود شادن لإكمال روايتها.
لكن هل وصلت شادن للحقيقة، التي يحاول الجميع تجاهلها او طمسها أو الالتفاف عليها؟ لم يحصل هذا بين حكايات الاختطاف وانهيار التربة والجن وأجهزة الاستخبارات نحن أمام ركام من الزيف المخلوط بالحقيقة.
غاية الرواية ليست في اكتشاف مصير المواطنة المفقودة "ميرفت احمد شحاتة" بعد ثلاثين عاماً من وفاتها ولا حتى مصير أبطال الرواية الرئيسين(شادن ، الأم، الأب) ولا والفرعيين ، بل غايتها كما نظن في حشد كل تلك الروايات المتضاربة في مواجهة بعضها, ودفع القارئ لتكوين رؤيته الشخصية، والبحث عن خلاصه من خلال الشك والبحث ونبذ اليقين وهو ما تقوله "حليم" على لسان الكاتبة الكبيرة في مذكراتها : تلك الرغبة في الثقب لم تتوقف عنها فحسب، بل امتدت إلى شعوري بالرغبة في ثقب روح ابنتي أيضاً، كي أعلمها كيف تمرر الصور إليها بعذوبة وخفة تكفيان لتعليمها كيف تنظر للأشياء وإلى الأشخاص بحيادية، ان ازرع الشك في يقينها بالأمور و أثبت لها أن اليقين محض وهم"
أماني خليل
نشر في ابداع ٢٠٢٥