#ريفيوهات
"كأن تنقصه الحكاية....وقود من أبي البقاء"
في مرثية سقوط مملكة غرناطة الشهيرة، نرى الشاعر أبا البقاء الرندي يستهلها بقوله
"لكل شيء إذا ما تم نقصان......فلا يُغر بطيب العيش إنسان "
والقصد هنا ليس تفسير المعنى -إذ أنه معروف وموافق لأمثال ومواقف لا يحصى عددها- بقدر ما هو طرح سؤال، ما الأجمل والأكثر مكوثا في عقل القارئ؟ حكايات معروفة جوانبها وخطوطها أم حكايات تدور حول شيء مجهول غامض لا يعرفه بطلها في أحيان كثيرة، أو يصادفه في بعض الأحيان دون أن يعرف معناه، فإن لاقاه وعرف معناه وسره تفتت واختفى...وتنتهي حكايته؟
الإجابة بسيطة، نراها أولا في مفارقة أن شاعرنا ملقب بأبي البقاء أصلا، كأن نقصان تلك الصفة بحكم طبيعته البشرية في دنياه-معلومة بديهية- هي المحرك الأساسي لحياته، وكذا أبطال قصص تلك المجموعة..
--صفوة الصفوة "الطريق إلى الأعالي"
تبدأ فكرة الشيء الغامض بصورة آينشتين في قصته، والذي يتحرك بطل القصة لاكتشاف سر وجودها ومن ثم ينغمس معها ورفاقه في مرحلة تتشابه مع صلوات الفتيات أمام تمثال ديونيسيوس في قصة "صلوات لديونيسيوس"، وفي تردد كأنه يهمس بين فقرات القصة
"نحن هنا لأننا لم نشأ أن نكون هنا
نحن هنا لأنكم تريدوننا معكم"
تتضح الفكرة، ونراها كأنها حيلة مصنوعة، تحاول منها التحايل على الدنيا الرمادية -في وصف بطل القصة- باتخاذ ذكاء آينشتين وطرافته كجناح يتميز به فئة ما فيحلقون بعيدا عن واقعهم الرمادي، تتطور أكثر في قصص "فراشة للاحتراق وآيسل سحابة برتقالية اللون" بكونها لا تتخذ شخصية غير نفسها وروحها التي لمستها وصنعت لحظات سعادتها كجناح تجتاز به سجن جسدها أو تصل به إلى ما نسجته من خيالها حين فقدته "نجمتينا"
-ربما تتطور أيضا فكرة الرغبة، تتنقل من معرفة سر الشيء كصورة آينشتين مجملا للنظر في كل تفصيلة والرغبة في فهم كل صورة وفك لغزها فتصنع هالة كبيرة تغذي رغبة جانبية لخوض تجربة النظر والتحليل، وإلا لما انتقلت مدام منى من التهكم على الشبشب إلى رقع زغرودة حين وجدت صورة أخرى نتيجة شعورها بفقدان مكانتها.
- وفي قصتي واجب وتحول نرى الحاجة تشتد، وتتولد القصة أيضا بفقدان شيء مهم، تحرك أبطالها إما أن يسدانها كقصة واجب "والتي منها يفهم معنى السطوة المتوارثة من الأب للابن غالبا" أو يتماشيان مع فكرة الفقد بصنع كيان جديد وقبوله على حالته "كالتحام بطلي القصة في قصة تحول"
--غبار الزمن الأول "عن رقصات أثيرية"
-يضعنا غبار قصص "اختفاء عازف التشيللو" و "أصوات المقهى القديم" و "أصداء مدينة بعيدة" أمام شكل الفقد، تتفق في صورة الضباب المشوش للقارئ، سواء كان ضباب مرئيا كالقصة الثالثة أو أحداث مبتورة كالثانية أو تشويش في عقل الراوي كالأولى، فقد ينفصل فيه الأبطال عن واقعهم، ويسعون دون وجهة أو مقصد، إلى أن يرشدهم قيمة يكمن سرها وأصالتها في غبارها "في كونها قديمة أقصد"، يجد فيها المرء ما يأتنس به وما يليق بهيئته ويعينه على طريقه
-وبتلك لا تكون المشاهد الحميمية في معظم القصص موضوعة بصورة منفرة، بل تصنع رقصات متحدية واقعهم بتمام قصصهم، سعي للكمال والتوحد يجتمع فيه الفناء والبقاء، ليس بالنظرة الذكورية يوضع فيها المرء في مهمة متمحورة حول جنسه كرواية جسم مثالي لرجل مهم للكاتب خالد البري "رغم اختلاف طريقة تناول فكرة الرواية"، بل نظرة رومانسية ذات حركة متجاوبة يبث فيها كل بتعبه للآخر، كقصة "منزل آخر لحبيب"
-ورغم علمهم بأنهم سيعانون أبدا لكنهم يواصلون التحدي والعبث عسى أن يحفظ الزمن ولو بصورة ممزقة أو قصاصة شعر أو نوتات موسيقية متطايرة، أو مقهى كامل حتى لتكون بقية مرشدة فيما بعد على أنهم كانوا بعد أن ذابوا في الكمال، وذكرى لزمن فات لهم
ومنها هل علمتم لماذا كان يحتفظ بطل قصة "آيسل سحابة برتقالية اللون " بالعطر في رحلته؟
--مش لايقين مش لايقين "عن جرس الإنذار"
-وبعد هذه للحظة، يمثل الجرس في قصص "فراشة للاحتراق وإيليت وأصداء مدينة بعيدة " إنذار لانتهاء الحكاية أو شيء مر يعلن أن الفقدان قد نصب خيمته، ولعل الجدة في قصة "ضفيرتان من خصاص نافذة" لم تدرك الجرس إلا آخر الأمر كبطلة قصة إيليت فرأت أن زوجها السبعيني المريض "انخطف من وسط الشباب" وتخشى لهذا السبب ضربات الكرة التي ممكن أن تدمر بيت تراه هشا
-وللحق يعطي هذا الجرس إفاقة للعقل، إدراك أوسع لما حوله، كما الخطوات الخفيفة في قصة تحول التي نبهت بطل القصة لشكل زوجته المهرج، شكل خيال الطفل في قصة 8 من 10 إفاقة للدماغ واختبار معروف نتيجته سابقا، مفاده إلى أي مدى سيتحمل المرء بتوتره وشعره الملتصق بوجهه من فرط رعبه، هل سيصنع واقعا معوجا يسكن ضميره؟ أم يفر منه ويصدق قول الطفل "مش لايقين مش لايقين"
--بشارات إلى سابق العهد
من قصص "قطرة منزوية داخل فناء" و"أصوات المقهى القديم" تكتمل الصورة بشخصيات تزيد المفقود بهاءً وتعلي من قيمته، فثرثرة أم أحمد زادت بطل القصة عنادا، وحديث النادل الغريب زاد من أهمية المقهى، بعكس ابتسامة محمود المبالغ فيها في قصة آينشتين، فهي نظره تجعل المرء يتأهب لصنع خطوة خاصة به يعيد بها ما فقده، فرصة ثانية- أو فخا كفخ هيرا للفانية في ميلاد أول لديونيسيوس " يداعب بها خياله فيبث فيها ذكرياته كقفزة بطل قصة اختراق ليرضى.