خاطرة من وحي الكتاب، وليست مراجعة له.
لا يعتبر الإنسان واجدا إلا باستشعاره هذا الوجد.
فمكانة ومكان وصحة ومال دون استشعار بقيمة كل هذا لا معنى له، إذ الوجد في الاستشعار.
آدم كان عليه أن يفقد كل شيء، المكان والمكانة، لا ليفقدها أبدا ولكن ليتستعيدها مجددا مستشعرا إياها وقيمتها، فما معنى الجنة ومعنى القرب من الله إذا لم يجرب النقيض، فلكي تجد كل شيء لا بد أن تفقد كل شيء لتستعيده مستشعرا قيمته، فكلنا مطردون من الجنة لا لنفقدها أبدا ولكن لكي نستعيدها عارفين قيمتها.
كان أيوب مالكا لكل شيء، أهل ومال وقربة ومكانة، ولكن كان لا بد أن يفقدها لا ليستعيدها مستشعرا بها وفقط، بل ليستعيدها ويستعيد مثلها معها.
يوسف كان له أن يعاني ظلمات الجب وظلمات البهتان وضيق السجن ليخرج مستعيدا كل ما فقده وأمثاله معه مرات ومرات وحينها فقط قال رب توفني مسلما وألحقني بالصالحين، قالها لحظة التمام ولحظة الكمال ولحظة الاستشعار التام بالنعمة ولم يقلها لحظة الظلمة والضيق والسجن، قالها لحظة الفهم للطف الله الخفي، اللحظة التي جعلته يدرك أن هذا لطف الله الدنيوي، فما بالك باللطف الآخروي؟!!، فلم يصبر عن الله وطلب العودة إلى لطفه الأتم مسلما مسلما سالما، اللهم بلغنا لطفك وأدخلنا في رحمتك وفي عبادك الصالحين مسلمين سالمين مستسلمين.
محمد، فقد أمه وأبيه وعمه وجده وزوجه وابنه ووطنه، ليعوضه عن هذا كله ليس ومعه مثله كما حدث مع أيوب بل ومعه أمثاله، طرد من مكة لتصبح له الأرض بأكملها مسجدا وطهورا، فقد أمه وأبيه وذاق معنى اليتم صغيرا، ليتكفل به رب العالمين، ألم يكن الله هو القائل له ألم يجدك يتيما فآوى؟!! فأنعم به من وكيل، فقد ابنائه الذكور ليعوضه الله بما لا يعد ويحصى من المؤمنين الذين اتخذوه أبا، وزوجاته أمهات لهم.
فقدان الذات شرط لوجدناها، فلا تتشبث بذات زائلة، كن ابن وقتك، واعلم ان الله لطيف لما يشاء، فهو لا يمنعك إلا ليعطيك ولا يهدمك إلا ليبنيك، إذا وجدت نفسك تغرق في ظلمات الظلم والفقر والمرض فلا تتشبث بغريق، فالمتشبث بالغريق غريق لا محالة، دعها وسلم أمرك لله لتجد أضعاف أضعاف ما فقدت.
نفقد ذاتا بالولادة، ذاتا كانت داخل الرحم مكفول له كل شيء، لنكتسب ذوات وذوات في الدنيا، نتقلب من طفولة إل صبا إلى شباب إلى كهولة، فاقدين ومكتسبين لآلاف الذوات، الإنسان إمكانية مفتوحة، ذات غير مكتوب لها التمام والكمال، ذات عليها وهي في سلم الصعود أن تولد الاف المرات في ظل الله ورعايته، أن تبدأ من الصفر، أن تفقد وتتدمر وتنهار وتتبعثر، لتوحد وتبنى وتستقيم وتتلملم بلطف الله الخفي وبركاته الباطنة، ومع كل ميلاد جديد كمال جديد تستشعره، كمال يتم لينقص، وينقص ليستعيد الكمال ومثله معه، في دورات لا تنتهي إلى أن تصل لحظة الكمال الأتم وتقول الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنتهدي لولا أن هدانا الله.