أجنحة في سماوات مغلقة
تأليف
محمد حيدر جمال
(تأليف)
"جلست في مكتبها الزجاجي تتأمل البحر، تتذكر والدها مضرجًا بدمائه ثم تتخيله واقفًا أمام فوهات البنادق وهو يحسب في رأسه عدد الأيام التي لن يراها فيها تكبر.
فاته الكثير بلا شك: ابتسامة أولى بأسنان جديدة، أول مرة وضعت فيها المكياج، سؤال محرج عن الحب، دمعة أولى من كسر القلب، فرحة أولى بالنجاح، يوم عرسها وهي تبكي لأن ديكور العرس لم يكن كما يجب.
لكن الوقت لم يعد يعنيه الآن. الوقت توقف عند هذه اللحظة، هذا الفجر البارد حيث تختلط رائحة البارود بعطر الياسمين الهندي في حديقة المنزل.
في جيبه، ملفوفة في قطعة حرير أزرق، رسالة لم يكتبها بعد لابنته. رسالة كتبها بعقله فقط، كلمة كلمة، خلال الأيام الثلاثة الماضية في الزنزانة. كان يعرف أنه لن يكتبها أبدًا على الورق، لكنه أراد أن تكون كاملة في رأسه قبل أن يموت، كما لو أن الأفكار يمكن أن تسافر عبر الزمن وتصل إليها عندما تصبح كبيرة بما يكفي لتفهمها.
«بنتي الحبيبة»، بدأت الرسالة في رأسه، «حين تقرئين هذا ستكونين امرأة، ولن تتذكريني كثيرًا ربما. لكنني أريدك أن تعرفي أن كل ما فعلته في حياتي كان يمر عبر سؤال واحد: ماذا سأقول لها لو سألتني يومًا عن هذا؟»
أبو رائد كان يقف إلى جانبه، وفي صمته نوع من السلام الذي يأتي للرجال حين يعرفون أن ما فعلوه كان صحيحًا. لم يكونوا أصدقاء في البداية.. فهما من عالمين مختلفين؛ رجل يملك منزلًا فارهًا مع رجل يسكن في ملحق مؤجَّر من غرفتين؟ لكن الوطن -وحدهما- أو العدو الذي سلب الوطن.. علمهما أن الشجاعة لا تُورث مع المال، وأن الخوف لا يختار بين الفقراء والأغنياء.. وأن العدو يساوي بين أبناء الوطن أكثر من أبناء الوطن نفسه.. يا للمفارقة.."