توقفت التكتكة الخافتة التي يحدثها السقوط الرتيب لقطرات المطر فوق لبدات السعف الكث , و أنصت الصغيران لهبة ريح باردة عبرت البساتين الهاجعة , و داعبت أشرعة السفن الميتة , و أطفأت , بخبث عجوز شريرة , القناديل المتأرجحة في مرافئ الصيادين . و عندما ابتعدت الريح , و سكنت الاصوات في الاجمات المعتمة , تناهى صوت محرك باخرة يهدر مثل قطار ثقيل , و مويجات حانقة ترتطم بالضفة الحجرية للشط و تخدش سكون الحلفاء و البردي في الشاخات التي تنسل بصمت في ظلمات الطين و الليل
نقاط صغيرة من المطر , بدأت تسيل الان على لحاء الشجر المتقشر , و تزعج دودات القز النائمات بطمأنينة داخل شرانقها الحريرية , و مع الوقت أخذت مزاريب السطح الصدئة تخدش هدوء الحديقة بخرخرتها المتلاحقة . و من خلف زجاج نافذته أنصت لدمدمة رعد بعيد تسري في السماء الرمادية , و عبر الوميض الفضي للبرق , لمح هذه المرة شخصا ما , في نهاية الشارع , يقفز بحذر , مع مظلته السوداء , فوق برك المياه التي كانت تتسع بمرور الدقائق . لكنه شعر برعدة اخرى تسري في أوصاله , عندما أحس بأنه قد أطال الوقوف الى النافذة هذا اليوم , كما لو أن المطر قد استل من وقته بعض الدقائق التي لم يعد يملك منها الكثير . تناول عصاه التي اسندها الى الحائط , و استدار نحو المدفأة , و تفحص مؤشر النفط فيها , ثم جلس في مقعده و مد ساقيه بحيث لامست اصابع قدميه حواف المدفأة . أغمض عينيه , و راح ينظر الى الدفء الهادئ الذي تسرب الى جسده مثل ضوء مصباح عتيق يندلق على جنبات زقاق مظلم في مدينة مهجورة . ثم حرك يده , و كأنه أراد أن يعمق من شعوره بالأمان , و تلمس أشياءه على المنضدة : نظارة طبية ذات اطار معوج قليلا بفعل الزمن , كيس دواءه الذي يحتوي على علب اكثرها فارغة , كتاب الادب و الثورة لتروتسكي بترجمة جورج طرابيشي , جهاز راديو - كاسيت ماركة فليبس الذي لا يزال يعمل على أحسن وجه منذ خمسين عاما , و الذي كان قد اشتراه من فتاة فقيرة في أحد اسواق هافانا الشعبية , بالإضافة الى صندوق صغير من خشب الساج البورمي , مطرز بالنحاس و مزجج بقطع صغيرة من المرايا الملونة , و مزود بقبضة من شرائط جلدية فوق الغطاء المفصلي , و قفل بمزلاج مصنوع من الكروم , يخفي وراءه العديد من البطاقات البريدية التي كانت تصل من مدن و عواصم بعيدة . احتفظ بالصندوق الخشبي داخل صندوق خشبي آخر يفوقه حجما , كان يقبع لسنوات طويلة على أرضية دولاب الملابس القديمة , و الذي كان قد أعاد استخدامه كخزانة مكتبية , بعد وفاة زوجته .

