صفحات من طوفان حمص
تأليف
محمود عيسى
(تأليف)
حاول العقيد أن يفتحَ حديثاً، قائلاً لي: «أنا من السُّويداء، فهل تعتقد أنَّ الإسلاميّين يحملون مشروعاً للحريَّة؟».
قلتُ له: «ما علاقتي بذلك؟» ولذتُ إلى الصَّمت. إذاً إلى دمشق.
سمعتُه يلغو ببعض العبارات، رانَ إلى مسمعي بعض منها: «لا تهكل همَّ أولادك!»، قلتُ له: «من يهمّهم أمر أولادي يعتقلون أبوهم! اتركوا أولادي بحالهم!».
قبل منتصف الليل أصعدوني في سيّارة "جيب"، بعد أن وضعوا الأصفاد بيديّ، وتحرَّكت السَّيَّارة من مقرِّ الفرع في حيِّ الغوطة في اتّجاه طريق الشَّام. كانت السَّيَّارة تسير جنوباً وقلبي يسير شمالاً، وكلَّما ابتعدت السَّيَّارة أكثر ازداد حزني، وطغى حضور أطفالي أكثر، والمصير المجهول الذي ينتظرني. كانت السَّيَّارة تسير ببطءٍ، وأصبح الطَّريق صعباً جدَّاً بعد أن تجاوزنا قارة، حيث أصبح الضَّباب كثيفاً. نزلنا من السَّيَّارة بعد القسطل، وكنت أجلس في الوسط بين عنصرين، وكان مقعد السَّيَّارة مزعجاً لأنَّه "منزوع". أخذ السَّائق يتحدَّث عن بطولاته، في حين كنت غارقاً في تأويل احتمالات اعتقالي الجديد، وأستعيدُ في ذاكرتي يوم 2000/11/16 عندما كنَّا خارجين من سجن تدمر. كم المشاعر مختلفة ومتناقضة بين الخروج من السّجن آنذاك والاعتقال الآن، ستّة أعوامٍ تفصل بينهما، ولا شيء جديداً قد حصل. ها هو ذا سجن عدرا، الذي طوانا سنين، ولا يزال فيه العديد من الأحبَّة، وها هي ذي دمشق نائمة ومحايدة، إلى «كفر سوسة». ازداد وجيب قلبي حين دخلت السَّيَّارة من بوَّابة المجمَّع الأمنيّ وسارت جنوباً ثمَّ انعطفت إلى اليمين وتوقَّفت عند مدخل بناء غرف التَّحقيق والقبو. فُتح باب الحديد ثمَّ نزلتُ الدَّرجات إلى القبو. أمرني العنصر، الذي استيقظ منزعجاً منّي، أن أخلعَ ثيابي ورباط الحذاء وأقدّم الهويَّة، ثمَّ أخذني إلى المنفردة الرَّابعة في السّجن الشِّماليّ وأدخلني ثمَّ أغلق الباب. كانت المنفردة مستطيلةً، جنوب شمال، في أرضها بطانيَّة فقط. خلعتُ حذائي ووضعتُ يدي تحت رأسي الذي أسندته إلى الحائط. نظرتُ في عتم الزّنزانة، للمرَّة المئة، فتراءت لي صور مَن مرَّ عليها وسط العتمة تلمع عيونهم، ولا تزال مرعبةً وكريهةً، وفتح «جرح الغياب!».