أنكراي
تأليف
صابر بقور
(تأليف)
بالعينَينٍ العسليّتَين كثيفتَي الرموش والحاجبين، الواسعتَين كحبّتَي جَوز في قوقعتَيهما الغائرتَين كبقايا قهوة ٍتُركية في فنجانٍ عثمانيّ فاخر، راح يحدّق فيّ بشُخوصٍ مُريب كأن الكوكبَين الدريَّين في عينيه سينطفئان. في العادة لا أحد يأبه للآخر في المترو؛ وسيلة نقلٍ تَنعدم فيها التفاصيل لفرط سرعتها، محطّاتُها متقاربةٌ، يصعد وينزل فيها العشرات في كل نقطةٍ، حتّى من يجلسون على المقاعدِ؛ نظراتهم باردةٌ إذا حدث أن التقتْ عيناك عيونهم صُدفة، إلَّا هاتين المُقَلتَين العسليتَين المفزوعتَين؛ كانتا واضحتَين كالضوءِ، حادّتَين كالشَّفرة، شاخصتَين كالدّهشة، استمرَّتا تلاحقانني بثباتٍ. خفضت رأسي مُشيحةً به نحو النافذة، أخرجت هاتفي من جيب معطفي في محاولةٍ للهرب منهما، وعدت أكرّر النظرة لأجدهما ما زالَتا تتأمّلانني بالنظرة المفزوعة ذاتها بعد أن غشاهما احمرارٌ مُخيف؛ كجمرٍ يفيض من فوّهة بركان، كرغبةٍ قديمة مستلقية على خشبٍ مُبلّل، بدأ الخوف يجتاحني، وأخذ ذاك الحزن يلتهمني كوحشٍ ضارٍ؛ تمامًا كما كان يُهاجمنا الجاثوم في طفولتنا كاتمًا النّفَس فينا، كان يشبهُه إلى حدٍّ بعيدٍ في اتشاحِه بسوادٍ قاتِم، لا يبدو منه سوى حدقتيه الواسعتَين المُحمرَّتَين ككأس نبيذٍ مُعتَّق.
كثقبٍ أسود ابتلعني حزنُه المميت في زحمَة المترو، قبل أن يحدث ما فتَّت أضلعي ورجّ روحي رجّةً لا يمكنني أبدًا أن أعود أدراجي بعدها...