قراءة نقدية 🧡
بقلم الدكتور أحمد حسن صبرة ✍️
— — — — — — —
لا تنتبه وأنت تقرأ هذه الرواية للمرة الأولى إلى قيمتها الكبيرة، تلفت نظرك لغتها المتماسكة المحكمة، وقدرات السرد والوصف عند مؤلفها منتصر أمين، وعنايته بالتفاصيل الصغيرة، رواية لا تمل وأنت تقرأها حتى وإن لم تكشف لك نفسها للوهلة الأولى، فالكاتب لا يتحدث صراحة عن مقاصده، بل إنه يخفيها عمدا، كـأنه يطلب من قارئه أن يبذل جهدا، إن لم يكن مساويا لجهد التأليف، فلا يبتعد عنه كثيرا.
في الرواية مستويان من الدلالات؛ مستوى ظاهر في القراءة الأولى، رحلة مندوب الإمبراطور الروماني "ماركوس فاليوس" بحثا عن حقيقة صلب المسيح وقيامته والشغب الذي دار حوله في فلسطين التي كانت جزءا من الامبراطورية الرومانية. ومستوى باطن يتكشف في القراءة الثانية، تعرف فيه أن هذه الرحلة لم تكن رحلة ماركوس مندوب الامبراطور، بل رحلة ماركوس الخاصة من الشك إلى اليقين. وأنه حتى المسيح نفسه لم يكن هو الموضوع الرئيسي، برغم أن كل الرواية تدور حوله، بل كان ماركوس نفسه هو البطل.
بنى منتصر أمين روايته على تعدد الأصوات بالمعنى المباشر للتعدد؛ أي أنه قسمها فصولا، وخصص لكل شخصية فصلا لتتحدث بصوتها هي. صوت ماركوس فاليوس مندوب الامبراطور هو المهيمن، ويأتي الآخرون وراءه بالتبادل، بحيث احتل صوته نصف الرواية تقريبا.
يذهب مع جاريته ميرا إلى أيوديا "يهودا، أو الضفة الغربية الآن"، وأورشليم ليتتبع الأقاويل التي قيلت في صلب يشوع "المسيح"، وقيامته، والحقيقة وراء هذا الموضوع. يلتقي في أثناء بحثه بكل من لهم صلة بيشوع كما يستخدم اسمه في الرواية، يتعرف من خلالهم على رؤيتهم وموقفهم منه ومن حقيقة قيامته بعد موته على الصليب. ويبدو في أكثر من نصف الرواية رافضا لكل هذا، غير مقتنع بأن يشوع قام بعد موته، حتى وصل به الأمر إلى التشكيك في أن يكون المصلوب هو يشوع نفسه حتى أكد له بعضهم أنه هو الذي صلب لا أحد غيره. لكنه يحاصَر، والسرد يتقدم، بكثير ممن يؤمنون بيشوع، وبقيامته، وبأنهم رأوه بعد أن قام بعد موته، حتى وصل إلى مخدعه وإلى جاريته الأثيرة ميرا التي قالت له إنها التقت بيشوع، ثم تركته لتلتقي به مع كثيرين غيرها في الجليل. ينتهي الأمر بماركوس باحثا عن ميرا في الطريق إلى الجليل، لكنه في الحقيقة كان يبحث عن يقينه الخاص. وقف مع آخرين، ورأى يشوع معهم، ثم غشيه، مثل آخرين نعاس ثقيل، وحين فتحوا عيونهم، كما يقول ماركوس فاليوس، "كان يشوع قد اختفى، ولم يتبق لنا سوى تلك اللحظة الرائعة التي حفظت داخل كل منا حرارة الحكاية، تلك الشعلة التي يجب علينا الحفاظ عليها." وتنتهي الرواية بأن تعثر عليه ميرا، وتقول له هذه الجملة الدالة التي هي آخر جملة في الرواية "مولاي، تبدو مجنونا بهذه اللحية وتلك الثياب البالية." وحين يصل القارئ إلى هذه الجملة، يعود ليتذكر الصفحات الأولى في الرواية وينتبه إلى دلالة التاريخ الوحيد الذي وضع في الرواية، وإلى المكان أيضا "الإسكندرية 70 م"، فالإسكندرية في هذا التاريخ بدأت تتخذ مكانتها لتكون واحدة من أكبر مراكز العالم المسيحي القديم، وإلى الجملة الختامية في هذا الفصل الأول القصير "لتكن مشيئتك". وتربط ما بين لحظتي البدء والختام لتكتمل معك هذه الرحلة التي بدأت قوية في الإنكار والشك، لتنتهي إلى يقين وهدوء واستسلام للقدر، وإذن "لتكن مشيئتك".
ولأن موضوعات الصلب والقيام وكون يشوع ابن الرب إشكالية بين المسيحية والإسلام، فقد كان منتصر أمين حذرا في تناولها، فقد أنكر في أكثر من موضع أن يشوع قال إنه ابن الرب، وهذا يؤيد الرواية الإسلامية، مع أنه نقل على لسان يشوع في حديثه ليهوذا حين قبله: يا يهوذا، أ بقبلة تسلم ابن الإنسان؟ وعبارة "ابن الإنسان" تشير من جانب خفي إلى كونه ابن الإله أيضا. وفي المقابل أثار شكوكا حول الصلب مع ميل للرواية المسيحية التي تؤكده، لأن التأكيد على عدم الصلب يسقط الرواية كلها. ثم إنه يختار مكان ميلاد المسيح حسب الرواية القرآنية حيث النخيل كان موجودا، بينما تقول الأناجيل إن المسيح ولد في في مذود داخل أحد الكهوف في بيت لحم. هذا الفاصل الدقيق بين الروايتين المسيحية والإسلامية، والالتباس الذي لن يرضي كثيرين لا يؤثر على قيمة الرواية، ولا يؤثر عليها أيضا تأفف ماركوس فاليوس من بعض العادات والمعتقدات التي يراها سمة في أهل الشرق، لأن مفهوم الشرق لم يظهر بهذا المعنى إلا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. في ذلك الزمن البعيد لم يكن الشرق إلا مفهوما جغرافيا لا علاقة له بالتحضر والثقافة والسلوك.
كنت أنوي، بعد القراءة الأولى، أن أقارن هذه الرواية البديعة بالروايتين الرهيبتين "الإنجيل برواية المسيح" للبرتغالي خوسيه ساراماغو، و"الإغواء الأخير للمسيح" لليوناني كازانتيكاكيس. لكن سياق الروايتين مختلف كثيرا عن سياق هذه الرواية، وكل منهما يحتاج إلى عرض خاص. مع ذلك، فإن رواية "خلف ستار النخيل" تحقق متعة من نوع مختلف؛ البناء السردي متعدد الطبقات، والإحكام في الإمساك بخيوط السرد، والوصول به إلى مقاصده المصممة بعناية، والأسلوب المنحوت نحتا دقيقا لا أثر ظاهرا للصنعة فيه. كل هذا يصنع تجربة خاصة في القراءة لا تندم عليها بعد أن تنتهي منها.
#خلف_ستار_النخيل
#منتصر_أمين
#دار_العين_للنشر





