العودة إلى السودان : بارود وورود
تأليف
صلاح الدين محمد الكفيل
(تأليف)
"الساعةُ الآن تشيرُ إلى الواحدةِ ظهرًا، وأشعّةُ الشمسِ تخترقُ ظلَّ النّيمةِ الكثيفةِ التي أجلسُ تحتها، في فناءِ منزلي بحيِّ الصّحافةِ. لكن، رغمَ ذلك الاحتراقِ والسُّمومِ، وبنطالِ الجينزِ الذي يتشبّثُ بي مثلَ خطيئةٍ ثقيلةٍ لا يمكنني الفكاكُ منها، إلّا أنّهُ ليَسْهُلُ عليَّ أنْ أتحمّلَ، في سبيلِ العودةِ لهذهِ البقعةِ المحبّبةِ، كلَّ أنواعِ الشقاءِ والمعاملةِ القاسيةِ، والعيونِ المشتعلةِ بالريبةِ التي كانتْ تحدُجُنا عندَ نقاطِ التّفتيشِ .
ان هذا الأسبوعُ الذي قضيتهُ بعيدًا عن حيِّ الصّحافةِ كانَ أشدَّ مرارةً، رغمَ توفّرِ الكهرباءِ والمواردِ في أمدرمان. ثم انه كيفَ لا أفتقدُ حيَّ الصّحافةِ، وقد قال عجوزٌ طيّبٌ عاشَ في القرنِ الماضي:
«إنَّ الصّحافةَ، صحافةَ العِظامِ، من محطّةِ سبعةٍ إلى الحزامِ» وتغنّى لهُ الكورالُ يقولُ:
«أنتَ يا دربَ الأماني، ويا نهاياتِ المسافةِ
ويا صباحاتِ المواني، ويا مناراتِ الثقافةِ
نحنُ منك نبني مجدَكَ، مهرجانَكَ يا صَحافةَ.
فمنذُ أنْ ترجّلنا من حافلةِ الميناءِ البريِّ التي استقليناها من أمدرمان، غمرتنا الطمأنينةُ وغشيتنا الذكرياتُ، الا أن هذهِ الطمأنينةَ لم تدمْ طوالَ الطريقِ على أيةِ حالٍ! فما إنْ وصلنا إلى المنزلِ وفُتحَ بابُ السّورِ، حتّى أبصرنا رصاصاتٍ طويلةً مُلقاةً على الأرضِ. فحملتُ إحداها أتأمّلُ على رأسِها آثارَ الخدوشٍ، فبدتْ لي وكأنّها اخترقتْ جدارًا من جدرانِ هذهِ البيوتِ.
ولمّا كانَ الحرُّ الشّديدُ لا يُحتملُ البقاءَ داخلَ الغرفِ أوينا إلى ظلِّ النّيمةِ الوارفِ الذي يهبطُ على فناءِ المنزلِ، لكننا، ما كدنا نستقرُّ في كراسينا حتّى انقطعَ هدوءُ اللحظةِ بطرقٍ خفيفٍ على البابِ! فنهضتُ بخطواتٍ مثقلةٍ، لاجد أن من يطرق الباب هي احدى قريباتي، غير أني لم أعلم ان كانت تلك النظرات على وجهها نظرات قلقِة أم نظرات اطمئنان. "