عنّي: ولادة الكلمات والسرد - نجوى بن شتوان
تحميل الكتاب
شارك Facebook Twitter Link

عنّي: ولادة الكلمات والسرد

تأليف (تأليف)

نبذة عن الكتاب

"عني" محاولة صادقة للإمساك بملامحي وأنا أعبر الزمن داخل القوالب التي صاغتني: المدرسة، البيت، العائلة، والمجتمع. لكلٍّ منها أثره، جرحٌ أضيف أو بصيرة أُضيئت. هذا الكتاب، وإن ارتكز في جوهره على السيرة الذاتية، لا يسعى إلى سرد إنجازات أو استعراض محطات لامعة، بل هو تأمّل في التفاصيل التي شكّلتنا وأثرها على وعينا وصورتنا عن أنفسنا. إنه أيضًا تأمل في مرحلة متزامنة من تاريخ ليبيا - ربع قرنٍ من الزمن، هيمن فيه القذافي على البلاد، وأدارها كما يشتهي، فأثّر في مساراتنا الفردية والجماعية على السواء. كتبتُ "عني" لا لأروي سيرة، بل لأفهم. لا لأدين ولا لأُمجّد، بل لأصالح ما بداخلي مع ما كان. استعدت الماضي، لا لأغرق فيه، بل لأفهم الحاضر الذي تسرّب منه وتشكّل في سياقه. كتبتُه حين شعرتُ أن ما أعيشه لا يكتمل إلا إذا تمكّنت من فهم ما عشته. لم يكن الحنين دافعي، بل الرغبة في التساؤل: لماذا صرنا ما نحن عليه؟ وماذا تبقّى من الطفلة التي تعلّمت أن تنصت أكثر مما تتحدث؟ "عني" هو محاولة للنجاة بالذاكرة: دون تزيين، دون تجميل، ودون خجل من الندوب التي لم تُشفَ. أردته دفترًا مفتوحًا على أسئلتي، ومرآة قد تعكس أسئلة القارئ أيضًا. المؤلفة.
عن الطبعة

تحميل وقراءة الكتاب على تطبيق أبجد

تحميل الكتاب
5 1 تقييم
16 مشاركة
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم

  • مراجعات كتاب عنّي: ولادة الكلمات والسرد

    1

مراجعات

كن أول من يراجع الكتاب

  • لا يوجد صوره
    5

    بالنسبة لنجوى كانت إجدابيا هي الجحيم أو لنكون أكثر دقة ليبيا هي الجحيم، وقبل أن يتسرع أحد في الحكم ليكمل القراءة. من الصعب أن يكره شخص وطنه، وهو لا يكرهه لأنه وطنه. تقول نجوى: "الوطن شيء، والذين يسكنون الوطن شيء آخر. أنتِ متضررة من البشر الذين يسكنون الوطن، ارحلي عنه وتحرري منهم. كل ما يحدث لك من عكوس ونحوس هي رسائل، مثل ضربات الفأس المتتالية في الموضع نفسه تحضّك على قطع المشيمة التي يجب أن تنقطع." قد نُعرّف الوطن بأمور كثيرة وقد نحاول أن نهرب من حقيقة أن لا تعريف من هذه ينطبق على المكان الذي نعيش فيه ولكننا برغم ذلك نستمر في العيش فيه وحبه ولكل منّا اسبابه. هذا ما وصلني من قراءة سيرة نجوى، فهي ليست مجرد سيرة شخصية لكاتبة ناجحة بل أقرب لمحاولة فهم لعلاقتنا مع المكان الذي نولد فيه، مع السلطة التي تحكم ذلك المكان، مع من يعيش فيه من أقارب أو غرباء. فماذا يعني أنك ولدت في بلد اسمه ليبيا؟ وكيف تتحول سيرة نجوى لمرآة لمجتمع متأزم ومليء بالتناقضات.

    يتفق معظم علماء النفس على أن مرحلة الطفولة هي الأهم في حياة الإنسان، وهي ما يشكل معظم تصوراته ومعتقداته وما يحدد مستقبله فيما بعد. اللحظة التي جاءت فيها نجوى للحياة كانت أعجوبة، ففي طريق أمها للمستشفى تتعرض سيارتهم لحادث سير و يصاب جدها وخالها، لكنها نجت واختارت أن تأتي إلى هذه الحياة. غير أن الصدفة البيولوجية شاءت أن تكون أنثى، وهو أمر لم يكن مستحباً في تلك الفترة. رفض والدها تسميتها، فاختارت لها أمها من وحي الحادث ونجاتها المعجزة اسم "نجوى". لاحقاً، سيسبب لها هذا الاسم الكثير من المضايقات، وسيُعاملها زملاؤها على أنها أجنبية في سنواتها الدراسية الأولى، كون الاسماء وقتها كانت مستمدة من الماضي وفي الغالب تأخذ البنات اسماء جداتهم. في مقدمة السيرة تصف نجوى نفسها بأنها وُلدت عجوزاً، ومن خلال رحلتها مع التعليم في مدرستها المتهالكة ستتعلم معنى القسوة والظلم. وهي كانت مستسلمة لقدرها وغير مقاومة طيلة فترة طفولتها، بدءاً من قبولها بالجلوس في المقعد الأخير، مقعد "الأغبياء"، مروراً بصمتها الدائم، وصولاً إلى تحملها للعنف الممارس من قبل المعلمات والطالبات. وفي أحد الفصول تصف بشكل مؤثر ما كان يتعرض له الأطفال آنذاك من ضرب وتعنيف يصل إلى حد الكسور والإعاقات في مدرسة جسدت السلطة بكل معانيها، رمزياً وفعلياً. هكذا، لم تقتصر معاناة نجوى على العنف الجسدي فحسب، بل واجهت صعوبات أخرى، أولها شعورها بالغربة في البلدة النائية التي هاجرت إليها عائلتها بسبب عمل والدها، وثانيها تفوقها العلمي الذي جعلها عرضة لمزيد من العزلة. من هنا ستدخل في أولى أزماتها الهوياتية، ولن تتمكن من تجاوزها إلا في المرحلة الإعدادية حين سيظهر نبوغها الأدبي وتصبح الكاتبة الرسمية للرسائل الغرامية لكل زميلاتها. وهكذا نجد أن المدرسة في عالم نجوى لم تكن للتعلم بل أشبه بسجن يكافح فيه الإنسان ليحافظ على سلامته النفسية والجسدية.

    أما خارج المدرسة فلم تكن المعاملة أفضل حالاً. فقد عاشت طفولتها في ظل سلطة عائلية صارمة؛ فالأم تميز بينها وبين إخوتها الذكور، والتعاليم والأوامر مرتبطة بالخرافة والجهل لا العقل والاقناع. فكان من المحرم عليها أن تصادق أي فتاة من المدرسة إلا بشروط قاسية، كما حُظر عليها الحديث مع الغرباء خوفاً من أن تُختطف من قِبل "السحرة وأعوانهم". وفوق ذلك، لم تجد من أمها اهتماماً أو حتى ردّاً على شكاويها من معاملة مدرستها. مع ذلك، لم تكن الأم إلا ضحية بدورها. فبسبب غياب الأب الطويل بحكم عمله، وجدت نفسها مسؤولة عن تربية خمسة أولاد في ظروف تستحيل فيه الحياة وتصفها فتقول: ❞ في هذه البقعة المقطوعة من العالم، ربما انقرض آخر ديناصور. أما نحن، فشيءٌ فينا قاوم الانقراض، سرٌّ عظيمٌ جدير أن يتقصّاه العلم، جعلَنا نصمد في ظروفٍ لا تسمح بالحياة لكنها لا تمنع التكاثر ❝. في هذا الجو المتوتر والمشوه نشأت نجوى ، لكن ما يثير الدهشة ان ما خرجت به من هذه الظروف كان قدرتها اللافتة على الخيال. فعلى جدران بيتها قبل دخول الكهرباء، كانت ترى وحوشاً وأشخاصاً، وباستخدام الظلال تحاول رسم كل شيء. هذا الخيال تطور إلى محاولة لإعادة بناء عالمها الممزق، لا الحجر فقط بل البشر أيضاً، وحين اكتشفت سحر اللغة تحوّل إلى يوميات وقصص.

    فيما بعد تستمتر الحياة في اعطاءها المفاجآت فرحلتها الدراسية ستنقطع فجأة حين يفرض التدريب العسكري الاجباري، فتضطر لمغادرة مدرستها والالتحاق بمدرسة محو الأمية لاكمال تعليمها بعيدا عن الثكنة العسكرية! حيث تابعت تعليمها مع كبار السن وعدد قليل من أقرانها. هناك، ستتعرف على حياة مختلفة، ومن خلال صديقتها خلود، ستتعرف على عوالم اخرى من خلال القراءة. خلود كانت ضحية لأفكار أخيها المتطرفة، لذلك كانت منبوذة من الجميع لأنها تخبرهم بأن مصيرهم جميعا هو النار والجحيم الأبدي، ولأن نجوى الوحيدة التي قبلت بصداقتها ستسرق لها من مكتبة أخوها قبل أن يحرقها عدد من الكتب ومن هناك ستُفتن للمرة الأولى بكتّاب مثل تولستوي وهوجو. يمكن القول إن تلك اللحظة كانت بداية رحلتها ككاتبة وامرأة بالغة.

    بعد هذه المرحلة، تنتقل بنا نجوى إلى فصل جديد من حياتها، وهو كفاحها لنيل حريتها. فبعد سنوات من الانقطاع بسبب الزواج وتربية ابنها الوحيد، تعود من جديد للدراسة في معهد المعلمين رغم رفض إخوتها ومعاناتها بسبب نقص المال وصعوبة السكن. وحتى بعد وفاة والدها، لم تحصل على حصتها من الميراث، لكنها اعتبرت ذلك ثمناً لحريتها. لكن الاستقلال لم يحمها من المصاعب. ففي أحد الأعياد، وقد اتخذت من سنين قرارها بأن تجعل يوم العيد مجرد يوم راحة وأن تتصدق بأضحيتها للفقراء، لأن العيد من وجهة نظرها لا يمثل لها وللنساء أكثر من يوم شاق ومتعب يتحملن فيه عبء سعادة الآخرين. في ذلك العيد قرر جيرانها في البناية أن يقيموا شعيرتهم الدينية في شرفاتهم فوق سكنها، مما أدى إلى تسرب كل الدماء والأوساخ عندها ووصولها حتى غرفة النوم، من غير أي اعتذار من الجيران أو حتى محاولة مساعدتها في التنظيف. ربما تكون تلك اللحظة التي اتخذت فيها قرار مغادرتها، ولكن كان عليها أن تنتظر سماح الفرصة، وكان ذلك بعد الثورة مباشرة.

    والحديث عن الثورة يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن السلطة التي عاشت تحتها معظم حياتها، فالنظام السابق وسلطته لم يغيبا لحظة عن السيرة. و الأسلوب الذي اختارته نجوى لتسرد قصتها يعطيها هذه المساحة فهي تمزج بين صوت الحاضر والماضي، مما منحها مساحة لإعادة النظر في تلك المرحلة بروح نقدية وتأملية.

    ومن بين ما ترويه نجوى عن طفولتها كثرة مرضها، وعن رغبة أبيها في أن يسافر بها لعلاجها، لكن بيروقراطية الدولة حينها ومركزية العاصمة حالت دون ذلك، مما اضطر والدها للجوء إلى المعالجين الشعبيين. هناك تبيّن أن لديها ورماً وقد جرى علاجه بالكي ونتج عنه عادا عن الألم الشديد مضاعفات كان يمكن تفاديها لو أن الدولة كانت مهتمة بمواطينها، وفي نفس المرحلة بدأت ملامح معجمها الخاص تتشكل، متضمناً كلمات مثل: حرية، اشتراكية، وحدة، زعاليك، انتحار، زواج... وهي كلمات ارتبطت بحكايات وتجارب مختلفة، لكنها جميعاً ظلت مشدودة بخيط غير مرئي إلى سلطة ذلك الزمن. عن موضوع اللغة تقول نجوى: ❞ يُعلَّم التلامذة إجلال لغتهم ليترسخ فيهم أنها هوية وجودية وليست أداة مثلها مثل أدوات إعداد القهوة على سبيل المثال يمكن تطويرها، أو وسيلة من الوسائل مثل السيارات يمكن الاستغناء عنها بالقطارات، ومثل القطارات يمكن الاستغناء عنها بالطائرات، ومثل الطائرات يمكن الاستغناء عنها برمش طرف العين ورده. ❝

    ثم تمضي نجوى لتصف الثمانينات بأنها فترة انتشار القبح والرداءة مع تدني الأخلاق. وتحكي عن الإصلاحات الزراعية الفاشلة وزراعة الأراضي التي كانت تؤدي في النهاية إلى حرب بين القبائل. ومع إهمال الدولة للزراعة يتحول كل شيء إلى صحراء. لا مكان للخضرة هنا، حتى الورد والنباتات أصبحت تُستورد من الخارج، ولكنها بلا رائحة أو إحساس، فقط بلاستيك وسيليكون. أيضاً في ظل النظام العسكري تُقتل الأحلام والطموحات، ويصبح الجميع بلا أمل. البعض يختار إنهاء حياته كمحمد الذي بلغ الثلاثين وهو عاطل ولم يحقق شيئاً في حياته، وآخرون يختارون الهروب والهجرة كأخيها الأكبر، وأخيراً من يبقى ويقاوم برغم كل شيء يتحول مع الوقت إلى قنبلة موقوتة من الحقد والكره الدفين وسينفجر عاجلاً أم آجلاً كما في حالة علي، الذي انتقل من طالب مجبر على أن يبقى في فصل "الحمير" لأنه فاشل في مادة الرسم إلى قائد مليشيا مسلحة ترهب الناس وتمارس عليهم ما كان يُمارس عليه من سلطة.

    بعد الثورة، ومع انقطاع كل أسباب البقاء، لم تجد أمامها سوى أن تسلك طريق الهجرة إلى إيطاليا. هناك سيتحتم على نجوى أن تعيش حياة طبيعية، أن تعيد اكتشاف نفسها وما تحب. ستدخل السينما وتُسحر لأول مرة، ستعشق التصوير، ستكوّن عادات جديدة وتزور المدن السياحية المبهرة. ولكن كشخص عاش طيلة حياته في قلق سيصعب عليه أن يحيا حياة هادئة. بعد مدة ستصاب بحالة اكتئاب يصعب تفسيرها ولكنها ستؤثر على حياتها الجديدة وستستمر معها إلى أن يأتي الفرج على شكل تجربة جديدة كمربية لطفلة أمها ذات أصول ليبية وقد توفيت، وأبوها عالم آثار ومشغول. ما تمر به الطفلة يشبه ما تمر به نجوى. هكذا تجد منفذاً ولو صغيراً يعيد ربطها بالوطن. لم تدم علاقتها بالطفلة قورينا طويلاً، إذ قرر والدها العودة إلى مدينته الأم، ولم تتمكن نجوى من مساعدتها على كسر صمتها أو الخلاص من النظام الصارم الذي يفرضه والدها عليها. لكنها خرجت من التجربة بصندوق ذكريات تركته الأم الراحلة، يحوي رسائل وقصة حياة صديقتها فتحية التي غادرت بنغازي للعلاج ثم اختفت في إيطاليا أكثر من ثلاثين عاماً بلا أثر. و ربما شكّلت هذه القصة بذرة روايتها "كونشيرتو قورينا إدواردو"، وهنا تنتهي السيرة بقراءة نجوى لسيرة فتحية الشواري، التي قاومت المرض ثم تلاشت في الغياب، تاركة ما يوقظ نجوى من عزلتها ويفتح لها منفذاً نحو الكتابة.

    في الختام، ورغم مرور السنوات وتعاقب الأحداث، فإن سيرة نجوى تكشف أن الواقع لم يتبدل كثيراً؛ فما زالت البلاد غارقة في نفس التناقضات، وما زال القمع والظلم والعنف المستمر يطحن الأفراد ويشوّه أحلامهم. وما عاشته نجوى بالأمس يكاد يكون صورة مطابقة لواقع اليوم، وكأن البلاد عالقة في دائرة لا فكاك منها. ما كتبته نجوى ليس مجرد ذكرى من الماضي، بل شهادة حيّة على حاضر مستمر لم يجد طريقه إلى التغيير. وهكذا تتحول السيرة إلى وثيقة مضاعفة: فهي من جهة تعكس حياة فرد، ومن جهة أخرى تكشف عن مأزق جماعي لم نتجاوزه بعد. ومع ذلك، ورغم ما يطغى على السيرة من تعاسة وتشاؤم، إلا أنها كُتبت بلغة سردية تتجنب التصريح المباشر وتفتح أمام القارئ مجالاً واسعاً للتأمل. فهي لا تكشف كل شيء، بل تحتفظ بومضات من السعادة والدهشة بين ثناياها، ليخرج القارئ بتصور يحمل شيئاً من الأمل وإمكانية التصالح مع الحياة، بالرغم من صعوبتها ووحشيتها.

    Facebook Twitter Link .
    0 يوافقون
    اضف تعليق
المؤلف
كل المؤلفون