ديوان علي الجارم (الجزء الأول)
تأليف
علي الجارم
(تأليف)
لعل الشعر أعمق الفنون سرًّا وأعصاها على التعلّم، إذ لا يُنال بالدرس والتدريب كما تُنال سائر المعارف، بل هو ومضة سماوية يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وهبة روحية يخصّ بها نفرًا قادرين على أن يستشعروا ما يعجز عنه غيرهم، فيترجمونه بيانًا بليغًا، وكلامًا ملهَمًا يأسر الألباب.
ويرى الشاعر الكبير علي الجارم أن الشعر جسر ممتد بين عالم الأجساد وعالم الأرواح؛ يهب للمادة الفانية نفحات من الروح الخالدة، ويرسل إلى ظلمات الحياة نورًا قدسيًا يبدد الغيوم، ويهدي الأمل التائه سبيله. فالشعر ليس وزنًا ولا قافية، ولا مجرد كلمات تصطفّ في تفعيلات، وإن حَسُنت ولطُفت؛ إنما هو ما وراء الألفاظ: ذلك الضياء الروحي الذي يجد منفذًا بين حروفها، وتلك اللمسة السماوية التي تكشف عن سحرٍ يطلّ من وراء ستار.
وشأن الشعر شأن الفنون كلها: إما أن يكون فنًّا حقًا، أو ألا يكون. فهو لا يعرف مراتب متوسطة كما هو الحال في نتاج العقول الأخرى؛ فإمّا أن يرتقي إلى مرتبة الشعر الجيد، وإمّا أن يسقط عن عرش الشعر ليغدو مجرد كلام عادي، كقائد جُرّد من ألقابه فغدا جنديًا لا غير.