ليست هناك أميرة تُدعى “ست الحسن”، ولا شاطر اسمه “حسن”، ولا قصر ينهض في المدى على تلة من خيال.. لكن ثمّة دفءٌ آخر، ونورٌ آخر، وحكاية تتجاوز الحكاية.
منذ الوهلة الأولى، حين لامست عيناي عنوان هذا العمل، ظننت أنني بصدد كتاب حكايات تُروى على وسادة المساء، من جدةٍ مشتاقة لأحفاد لم يولدوا بعد – عالية ونوح – غير أنني ما إن غصت في ثنايا الصفحات، حتى أدركت أنني أمام شيء أبعد من مجرد “حدوتة”.
كنت أمام مرآة.. مرآة تنعكس عليها ملامح الإنسان، بلا زينة، بلا أقنعة، بلا أوراق توت.
الكاتبة لم تُمسك بالقلم لتُسلي أحفادها، بل لتُعلمهم كيف يكون الوجود دفئًا، والحياة صدقًا، والمشاعر انتماءً لجوهر الذات.
لقد كتبت ما تمنّت هي أن تسمعه، ما رغبت هي أن تقرأه، حين لم تجد من يقول لها: “لكِ الحقّ أن تَشعري.. أن تَختلفي.. أن تكوني كما أنتِ.”
هذا الكتاب لا ينتمي إلى زمن الحكايات الشعبية، ولا يستدعي رموز الفانتازيا المتوارثة.
لا “ست الحسن”، ولا “الشاطر حسن”، بل عالية ونوح.. بأسمائهما، بتفردهما، ببشريتهما الطازجة.
وهنا تكمن المعجزة: أن تُحكى الحكاية كما هي.. بلا تزويق، بلا مبالغات، بل بجمال الحياة حين تُروى من قلبٍ صادق.
ولعلّ ما يدهشنا بحقّ هو هذا الحُب الذي أودعه الله في قلب جدةٍ، تنتظر أحفادها من خلف ستار الغيب،
تحبهم قبل أن تراهم، وتكتب لهم قبل أن يقرؤوا، وتُربّيهم على صفحات كتاب قبل أن تمسّ أيديهم الحياة.
إنه حبٌّ تتوارى أمامه الكتب التربوية، وتخرس أمامه نصائح الكُتّاب، لأنه لا يُدرَّس.. بل يُعاش.
وحين كتبت د. سحر الحسيني هذا العمل، لم تكن تؤرخ لحياة، بل كانت تضيء مسارًا.
لم تكن تعلّم، بل تحتضن..
لم تكن تُحاضر، بل تهمس:
“أنا أحبكم، كما أنتم، وسأحبكم أكثر حين تُصبحون أنتم.”
من بين عشرات العبارات التي زخرت بها الصفحات، استوقفتني واحدة، شعرت أنها تمثّل قلب الكتاب وروحه الناطقة:
“سيحاول العالم أن يقنعكم أن كل إنسان وحده.”
تأملت هذه الجملة طويلًا…
وقفت أمامها كما يقف العاشق على باب المحبوب: بدهشة، برجفة، بخشوع.
إنها ليست مجرد عبارة، بل مفتاحٌ لفهم الذات في عالم يعزلنا باسم الفردانية،
ويربينا على الخوف من التفرّد.
في هذه اللحظة أدركت: الكتاب لا يلقّن أبناءنا ما يجب فعله، بل يعلّمهم أن يكونوا صادقين مع أنفسهم…
أن يبكوا حين يستحق البكاء، ولو ضحك الجميع، وأن يضحكوا حين يفرح القلب، حتى لو خيّم الحزن على الوجوه من حولهم.
هذا الكتاب ليس فقط لأحفاد لم يولدوا بعد، بل لنا نحن أيضًا،
نحن الذين ما زلنا نلملم شتات قلوبنا،
ونبحث عن ملامحنا خلف زجاج الأيام المعتمة.
في هذا النص، عالية لا تحتاج إلى لقب “ست الحسن”،
ونوح لا يحتاج إلى أن يكون “شاطر حسن”.
كلاهما يُروى كما هو، ويُحبّ كما هو، ويُترك له أن يكون كما يشاء…
وهذه، في حد ذاتها، ثورة ناعمة في زمن التنميط.
لقد أضاءت الكاتبة عشرات الدروب أمام الأجيال القادمة،
وفي الوقت ذاته، أسعفتنا – نحن الكبار – بالدفء والمعنى،
ونحن نغلق دفاتر العمر، ونتهيّأ للسكينة.
هناك كتبٌ تُقرأ لمرة واحدة…
وهناك كتبٌ تظل تسكنك، كلما قرأت فيها صفحة،
ظننت أنها كُتبت لك وحدك.
“حكايات قلب جدة” تنتمي إلى النوع الثاني.
افتح الكتاب من أي صفحة، دون ترتيب، دون نية مُسبقة، وستجد أن قلبك بدأ القراءة قبل عينيك،
وأن روحك قد سبقتك إلى الفهم.
وما زال هناك الكثير لأُقال عن هذا العمل،
لكنني أختار أن أترك للقارئ دهشة الاكتشاف،
ومتعة التورط في الجمال،
ورفاهية التأمّل في مرآة لا تكذب.
د. سحر الحسيني، وهي تُهدي هذا الكتاب إلى أحفادها الغائبين حضورًا، الحاضرين قلبًا،
لم تهبهم فقط إشراق الحروف، بل غمرتنا جميعًا في نهرٍ من المعرفة، والحب، والبوح، والإنسانية.
←