قراءة في رواية "الترجالي رأس الثعلب" للكاتبة أ. ابتهال الدسوقي، صادرة عن دار إشراقة للنشر والتوزيع
بسم الله الرحمن الرحيم
سأحاول أن أكون موضوعية وألا أتأثر بانبهاري الشديد بالرواية وأنا أكتب انطباعي عنها. سأقول باختصار: أنا أمام عمل ماتع مشبع للذائقة اللغوية والحس والخيال والعقل معاً.
رواية "الترجالي رأس الثعلب" للكاتبة ابتهال الدسوقي، رواية تقص علينا حكاية مدينة ترجالة (تروخيو حالياً بغرب إسبانيا)، في زمن اثنين من خلفاء دولة الموحدين. الرحلة بين سقوطها في يد نصارى إسبانيا، إلى فتحها مرة أخرى ورفع الأذان على مناراتها، في ثلاثين عاماً زاخرة بالأحداث.
اختارت الكاتبة مرحلة تاريخية قد تكون غامضة في نظر كثيرين، حتى من محبي التاريخ، وهو عصر دولة الموحدين، وتشبثهم بالدفاع عن ذبالة الأندلس الأخيرة، مما أخر سقوطها ثلاثة قرون كاملة. هذه الفترة كانت الحروب الصليبية دائرة في المشرق الإسلامي على قدم وساق، مما شغل مسلمي المشرق عنها، وبالمثل شغل المؤرخين عن تسليط الأضواء عليها.
تبدأ القصة عند "عبد الله الترجالي" وهو مجاهد مسلم انضم لصفوف الموحدين في جهادهم للدفاع عن معاقل الأندلس المتعرضة للسلب من قبل الإمارات النصرانية المجاورة ( البرتغال وقشتالة وليون)، وإذا بالقصة تتفرع إلى قصص، وينضم الكثير من الشخصيات التاريخية الحقيقية. دخلت الكاتبة بي إلى قصور الملوك الإسبان، وعرضت لي صراعاتهم السياسية والعاطفية، وانتقلت إلى الجيل الثاني، غالب بن عبد الله الترجالي والذي سمى نفسه رأس الثعلب (كابيز دي زورو) تيمنا باسم تلة رأس الثعلب التي تحمل مدينته الحبيبة ترجالة.
الإعداد العلمي والتاريخي لهذه الرواية كان جباراً، وقد اعتدت من كتاب الرواية التاريخية إما الاستغراق في وصف التاريخ فتصير الرواية مملة، وإما الاكتفاء بالسرد العاطفي البليغ فتولد رواية خاوية من الداخل وليس التاريخ فيها إلا مجرد إطار. تمكنت الكاتبة من بث الروح في شخصيات تاريخية مثيرة للاهتمام، وجعلتني أتعاطف معهم أحيانا حتى وهم ملوك الإسبان الذين هم أعدائي التاريخيين.
وهنا تبرز الموضوعية الصرفة، واختفاء الكاتب تماماً، واندماجه مع شخصياته اندماجاً كلياً، فتصبح الرواية ثلاثية الأبعاد تتغلغل إلى نفس القارئ وتتلبسه فيصدق كل حرف فيها، ويمر بتجربة ماتعة لا تنتهي بانتهاء الكتاب.
نقاط القوة:
- العنوان مشوق للغاية، غامض رغم ما أوضحته كلمة "رواية أندلسية".
- اللغة الجميلة السهلة، وسط بين لغة ذلك الزمان ولغة زماننا، قوية نابعة من الوجدان ومتصلة بالمشاعر. تشبيهات إبداعية مبتكرة ومناسبة للزمن في الوقت ذاته، فلم أجد كلمة غير مناسبة لزمن الحكي سوى كلمة واحدة فقط (سأتركها لغزاً للقراء !!)
- الوصف الدقيق البعيد عن الإملال وصف دواخل الشخصيات وصراعاتها النفسية، ووصف القصور والحدائق، وطبيعة الأندلس سهولها وجبالها وخضرتها وأنهارها، وثياب الملوك والأميرات وطقوسهم الملكية بدقة مذهلة.
- ركزت الكاتبة على أحداث قصتها، ولم تنشغل بالسرد التاريخي على حساب الحكاية، لذا فإن الذي لا يلم بتاريخ الأندلس سيستمتع بالحكاية إلى حد كبير جداً.
- النضج والعمق في وصف الشخصيات، لم تستح الكاتبة من وصف بعض سلوكيات الشخصيات طبقاً لعقائدها التي قد تخالف اقتناعها الشخصي، وتجنبت بذلك خطأ أراه كثيراً عند الكاتبات ذوات الهوى الإسلامي، بل وكتبت كل ذلك بموضوعية تامة حتى تكاد تتعاطف مع الشرير أحياناً.
- التحضير الممتاز للمادة العلمية التي بنيت عليها الرواية
- لم تسترسل الكاتبة في وصف المعارك الحربية إلا في موضعين وهما الأهم: معركة شنترين، ومعركة الأرك، وأعترف كان الوصف دقيقاً غير ممل وهذا في نظري لم يكن سهلاً على الإطلاق.
- الخريطة في أول الكتاب مفيدة جداً في استيعاب الكثير من أماكن الأحداث.
نقاط الضعف:
- شخصية عبد الله الترجالي رغم أنه شغل مساحة كبيرة من الرواية إلا أن وصف شخصيته كان يفتقر إلى مزيد من العمق.
- كثرة الشخصيات قد يسبب لبعض القراء نوعاً من الارتباك، لذا أنصح الناشر في الطبعة الثانية بإذن الله تعالى بإضافة فهرس بالشخصيات التاريخية بأسمائها العربية والإسبانية، ومقدمة قصيرة عن طبيعة العصر.
- إصرار الكاتبة على وصف النهار أو الليل في مقدمة كل فصل، رغم أنه كان وصفاً بديعاً حقيقةً! إلا أنه كان زائداً في بعض الفصول ويمكن الاستغناء عنه.
- التقدم والتأخر خلال النص، واستدعاء الذكريات وسط الأحداث كان أحياناً مربكاً يحتاج فقط لإيضاح أكثر.
- التاريخ المصاحب لبعض الأحداث أحياناً يكتب بالتقويم الهجري والميلادي، وأحياناً بالميلادي فقط، وبعض الأحداث كانت تحتاج إلى تدوين التاريخ، هذا شكل محنة للضعفاء مع الأرقام مثلي!
شخصيات مميزة للغاية:
- الأمير فرنان
- الملك ألفونسو الثامن
- الخليفة يوسف بن عبد المؤمن الموحدي
- غالب بن عبد الله الترجالي
- سانشة
- الفتى يحيى
مشاهد لا تنسى:
- اعتداء عصابة جراندة على مدينة ترجالة.
- إغراق ابن مردنيش لأخته وابنتها !!
- مشهد زفاف الملك ألفونسو الثامن والملكة إليانور، دقة مذهلة وتفاصيل غير عادية، تلاه وصف حفل استقبال الخليفة يوسف الموحدي لقبائل العرب الوافدة إليه بالمدد، والمقارنة بين المشهدين.
- مشهد معركة شنترين
- مشهد خيانة الأميرة استفانية
- مشهد قتل الملك ألفونسو لعبد الله الترجالي
- مشهد معركة الأرك الخالدة
- المشهد الختامي.. مسك الختام بحق!