رحلتي بين النيل والسين
تأليف
فتحية سيد الفرارجي
(تأليف)
وختم جواز السفر بختم النسر، آخر نسر مصرى يحوم حولي وأنا فى الثانية والثلاثين من عمرى. وكانت لحظة الفراق التى تشعر فيها بأن شيئا ينتزع منك وخاصة وداع الأم وأفارق نبضات قلبها لمدة عامين، وبين أحضان أختي التى تمد ذراعها حتى أعماق قلبى وبين نظرات أبي و إخوتي وكل من أحبهم والدموع تملا أعيننا حيث هذه المرة التى سأسافر فيها لمدة طويلة ويتساءل كل منَّا فى داخله : هل سيرى بعضنا بعضًا ثانية أم لا ؟ من سيركب طائرة الرحيل الأبدى وستُقطع تذاكر سفره قبل الآخر؟
بعد ثمانية أعوام من سفرى فى المرة الأولى أقلعت الطائرة وكان معها بتمزق قلبى بين وداع بلدى الحبيب الذى لم أغادره إلا فيما يقل عن شهرين كنت أودع الأهرامات وأَعِدُ (أبا الهول) بأننى سأظل محبة لبلدي مهما رأيت من تطور وتقدم ومهما شعرت بأسى مما أعيشه.
وكلما بعدنا كانت تصغر المنازل والشوارع وتبعد رائحة التراب وغبار المصانع وكلما نبعد نشعر كأن بئرًا عميقة يزداد عمقه وطوله بطول المسافة.
واختلط لون مياه البحر الأبيض المتوسط بلون السماء وهو يعبر من قارة إفريقيا إلى قارة أخرى وظلت المسافات تقترب كميكروسكوب يدقق ويحملق فى شكل البيوت التى تنحدر أسقفها بين المثلث والمائل بطوبها الأحمر، ويتواصل زجزاجها المنحدر المتناسق المطل على شوارع مسطرة ومقسمة ومهندمة ومزينة بالحدائق والورود بعيدة عن الأسقف المفعمة بمخلفات المنازل كأنها لوحة رسمها الأجداد والأحفاد معًا.
ونوافذ البيوت اللامعة يعكس بعضها البعض وتشير إلى المارة بأنامل الجمال، وتعلوها قبعات المداخن الدافئة التى تحمل زفير الفرنسيين ويؤازر كل منهم الآخر. فجمال المكان ونظافته وهدوؤه ورونقه كان شحنة موجبة تسحب كل الشحنات السالبة بداخلي وتصرعها أرضًا رغم قوة عضلاتها وتضخمها بداخلي على مدار سنوات طويلة.