إحداثيات الزمن اللامألوف
تأليف
موافي يوسف
(تأليف)
بخطواتٍ متثاقلة، كخطوات المساجين المُنساقين للويلات، يخطو أناك، ﻳﺒﺘﻌد عنك، يدخلُ في دهليزٍ من العتمة، تنبعثُ منه أصواتٌ مبهمةٌ وهمهماتٍ مكتومة.
ﻳﺨﺘﺮق غابةً ﻛﺜﻴﻔﺔً من أغصانٍ متشابكةٍ، تتدلّى منها ثعابينٌ وخفافيشُ عظيمة، وكصاروخٍ معتوهٍ ينطلقُ صوبك ثعبانٌ مخبول، يفتح فمه المرعب، يبعثُ فحيحاً مبحوحاً ومخيفاً، ينظر إليك بعينين حمراوين مستطيلتين، ثم يقهقهُ قهقهةً حامضةً، ويتلاشى.
ثمة أقدامٌ تركلُ الحشائش، تلتفتُ نحو الصوت، يلوحُ شبحُ جنديٍّ دون رأس، محلُ رأسه يقبع ما يشبه علامة استفهامٍ كبيرة، معصوبُ الفم بخرقةٍ، يرتدي بَزةً عسكريةً، ويحملُ بندقيةً في يده المسلوخة حتى العظم، يتقدمُ صوب أناك، ﻳﺘﻌرّقُ ﺃﻧﺎﻙ، يسكنه الرعب، وكقطعةٍ من الهواءِ يعبرهُ الجنديُّ دون ﺍﻛﺘﺮﺍﺙ.
الرؤوسُ والجماجمُ المُدلاة تقرعُ كؤوس نخبِها، وتغني أغنياتٍ حزائنيةٍ تشبه تعويذاتٍ قديمةٍ ومنسيّة، يقتربُ صوبها الجندي، وبصورةٍ معتوهةٍ يطلقُ عليها وابلاً من الرّصاص، فتحلقُ الرؤوسُ والجماجمُ، وترتفعُ ﻷعلى، لأعلى وأعلى، ﻳﺮﺗﻔﻊُ معها وقعُ الأغنية، تدورُ حول الجندي، تدورُ، تدورُ وتدور، ثم تهوي صوبه كراجمات، تدفنه، تصيرُ كومةً كبيرةً، يخترقُ صوتُ رصاصةٍ الكومةَ الكبيرة، فتشتعلُ، تشتعلُ وتشتعل، وتستحيلُ الكومةُ إلى رماد، يستحيلُ الرماد لغيمةٍ، تتكاثفُ، تتكاثفُ وتتكاثف، يشقها برقٌ رهيبٌ، ثم تسقطُ ﺍﻟﻐﻴﻤﺔُ مريسةً تتلقاها الكؤوس. ﺛﻢ تنبعثُ مرةً أخرى من الأغصانِ والجذوع رؤوسٌ وجماجمُ، تبدأُ في الغناء بما يشبهُ التعاويذ، تحتسي المريسةَ، بينما يلوحُ في الفراغِ الضبابيّ ﺷﺒﺢُ جنديٍّ آخر.
حتماً لم تُدرِك ماهيّة ذلك الجنديِّ الشبح، ولكننا كرُواةٍ، اعتقدنا أنهُ، ربما كان يجسِّد خُلاصة قُبحِ الحرب.