لم أكن لأطلق عليها لفظة " رواية " ، فهي بمثابة تحفة فنية تزخر بعظيم المعاني و تعج بوفير البلاغة و الأدب. تراقص ألحان الحروف و تنساب انسياب الماء في جوف القارئ النهم.
لقد وظف العتوم أشكال البلاغة كافة في رائعته. فلا يكاد سطر منها يخلو من الصور الجمالية. و مما أضفى عليها صبغة أدبية خالصة احتوائها على الكثير من الأبيات الشعرية المتناثرة و التي تنم عن فهم عميق لكل حرف فيها و عن إلمام واسع بشتى الثقافات و الحضارات المختلفة.
لقد برع العتوم في استخدام اللغة الوصفية، حيث شعرت أن بمقدوري رؤية تلك الأحداث و كأنها تحدث أمامي بالفعل. فهي تشكل بذلك لوحة فنية محكمة الإتقان. و كما قال في روايته " إنها ثمانية وعشرون مخرجاً من الجحيم " ، فقد تلاعب بالحروف و كأنه يشكلها كيفما يشاء و هي بدورها تلين أمام أسلوبه الفذ دونما مقاومة.
و أما عن الشخصيات فحدث وﻻ حرج، فبطل الرواية التي تدور حوله أحداثها لديه 6 أسماء لكل واحد منها شخصية مختلفة. صالح و ماركس و حافظ و نديم و أبو نواس و ابن عباس كلها أسماء لشخص واحد حائر بين تلك الشخوص. إستطاع العتوم من خلالها الغوص في أعماق النفس البشرية، حتى أنني قد لامست " اللاوعي " الخاص بكل شخصية على حدة. لقد جعلني أعيش الاضطرابات و العلل النفسية و الجوانب المظلمة في كل شخصية و أيضاً جعلني أتلمس الندوب و الأسقام الجسدية التي أحس بها صالح - كما أفضل أن أطلق عليه - .
و أكثر ما لفت انتباهي و أثار دهشتي الجزء المتعلق بفكرة الإنتحار التي راودت صالح، و كيف أن عقله الباطن أوجد لكل فكرة إنتحار سبباً مقابلا للعدول عنها. سبب هو في نظره يحمل معنى الفلسفة الماركسية و لكن في نظر القارئ هو تمسك بالحياة كعهد البشرية بها.
و رغم أن أحداث الرواية تنطوي على الكثير من الأحداث الغريبة إلا أنها قد لامست بطريقة ما واقعنا المعيش. فمسألة العوز و طلب الهجرة إنما تعبر عن حال الشباب في أوطاننا و تطرق ألف باب من الهواجس و تجسد العديد من السيناريوهات التي قد تكون مصيراً محتوماً لأي واحد منا.
كدت أفرغ من قراءة الرواية حتى شارفت على نهايتها و لم أتخيل لوهلة أن هناك سبيلاً للنجاة من تلك الفوضى العارمة. كان جزء صغير في داخله يتشبث بالحياة تشبث الطفل الصغير بحضن والدته. و ﻷن " على هذه الأرض ما يستحق الحياة " فقد كانت النهاية عظيمة بقدر معاناة صالح المريرة طوال أحداث الرواية. و أختم بحقيقة أراد الكاتب أن يوصلها إلينا و هي أن طريق الله سبحانه وتعالى مفتوح دائماً أمام عباده التائبين المنيبين إليه، فهي السبيل الأوحد للخلاص و النجاة حينما تنفد حلول الأرض.