البحث عن المعنى بين ركام العدم والعبث
منذ اللحظة الأولى في قراءة رواية "السلاحف لا تشعر بالوحدة" للأديبة المتميزة ضحى صلاح، نتيقن أننا أمام وجدان متقد وفكر متمرد وقلم بديع، تدخلنا ضحى صلاح في العالم المتوتر لبطلة الرواية "رؤى"، حيث تتدافع الأزمنة والأمكنة والأحداث والأفكار، كلها داخل الدولاب، يقبع العدم المتذمر في خلفية الحكاية، وينطلق العبث المتمرد من بين السطور، ويزحف الغضب المتوتر فوق الصفحات، الغضب من مدن الوحدة، ومن الأم والزوج والعائلة، ومن الموت والحياة، ومن الأرض والسماء.
من داخل الدولاب، بين بطلتنا "رؤى" والسلحفاة "مواسير" دارت حوارات العبث، عبث المقدَّس والمدنَّس، وعبث الذكريات الملتبسة، وعبث الأسماء والمعاني، وأحاديث العائلة، ومهاتفة الأب الراحل، واللون الرمادي، والإجابات المؤجلة.
ربما كانت هذه الرواية تحكي عن صدمة فَقْد "رؤى" لأبيها وتداعيات أحزانها ومشاعرها ومشكلاتها وزوجها، وربما كانت تحكي عن ليلة من ليالي العمر تجلت فيها أنوار النفس بعد أن أزاحت رياح الخوف الأتربة من على جنباتها المُنهَكة، وربما كانت تحكي عن معاناتها في البحث عن الشغف والمعنى، وتوقها للصلح مع الأرض والسماء.
في حوارات "رؤى" و"مواسير"، كانت كل الأفكار تتداعى، الوجود والإنسان والمعنى والوحدة والاغتراب واللا إنجابية والإجهاض، أخذتنا الرواية في رحلة نفسية فلسفية مُرهِقة، بين الوجودية والعبثية والعدمية، الثلاثة يبدأون من نفس النقطة، وهي أن الوجود يسبق الماهية، يوجد الإنسان ولا يوجد المعني، لكن الثلاثة يختلفون بعد هذه النقطة؛
الوجودية تقول لا يوجد معنى.. علينا أن نجد المعنى ونسعى في الحياة من أجل ذلك،
والعبثية تقول لا يوجد معنى.. هذا لا يهم لنحيا الحياة ونتعامل معها كما هي،
والعدمية تقول لا يوجد معنى.. ولن يوجد فلا وجود للمعنى أصلاً ولا جدوى إذن.
احتارت "رؤى" بين "الرؤى" الثلاثة، العدم والعبث والوجود، لكن الشغف يحيل العدم إلى عبث، والمعنى يحيل العبث إلى وجود، والوجود هو هبة الحياة ولعبتها التي مُنِحناها.
ظنت "رؤى" أنها يمكن أن تعيش داخل الدولاب وأن تحيا الوحدة مثلما تحياها السلحفاة داخل قوقعتها، يتوالى الحكيّ، ثم تأتي الإجابات المؤجلة لتتكشف الحقائق المخفية، ويتبين منبع العدم والعبث الذي يخيم على حياتها، ويأتي معها الشغف المتلكئ والمعني المتردد، تبحث "رؤى" عن شعلة الشغف بين ركام العدم، فتجده في الرغبة في الاعتراف والقدرة على المواجهة، وتبحث عن زهوة المعنى بين ركام العبث، فتجده في قيمة حياتها التي لم تكن تدركها بوعي وتجربتها التي لم تكن تحياها بشجاعة، وتقرر "رؤى" أخيراً أن تخوض التجربة من جديد.
أبدعت ضحى صلاح في رسم عالمها الأدبي، وفي التعبير عن الأزمة، وفي استخدام اللغة العذبة والبسيطة في السرد والحوار، ومنحت بطلتها "رؤى" حق الحكيّ كما تشاء فجعلتها هي الراوي بصيغة المتكلم كي تنساب الحكايات بنعومة لتصل إلى منتهاها، حين تتذكر "رؤى" أنها لا يجب أن تختبر صلابة صَدَفة السلحفاة، ثم تخرج من الدولاب والقوقعة، وتقرر أن تمسك الزمام.