يبدأ الكاتب بمقدمة يروى فيها وفاة عجوز يسمى فوزان الطحاوي ومحاولة ابن عمه أن يبحث في داره عما سرقه فوزان من أبيه وهو في عمر الرابعة عشر بعد أن قتله، هذا ما عرفه وما تربي عليه من صغره، في البداية عندما قرأت المقدمة، وأخذت أنهل من أحداث الرواية، ظننت أن الكاتب قد حرق الحبكة بمثل هذا المقدمة ولكن خبايا تفاصيل الأحداث كان لها رأي آخر....
لقد مات برجس الطحاوي عم فوزان لأنه قدّر له الموت، مثلما مات فوزان عندما قدم أجله....
رواية بديعة تدور في أثناء القرن العشرين حيث انتشرت الرهانات على صراعات الديكة و سباق الخيل، الوصف رائع فوق الوصف وخاصة في ذكر أحداث السباقات، شعرت وأكنني أرى السباق رؤيا العين وأسمع صياح المتفرجين بأذني، وهذا نادرًا ما يحدث لي حين أشعر نفسي كأحد أبطال الرواية وليس مجرد شخص فضولي يتعمق في تفاصيل الأحداث من خلال استخدام خياله لتجسيد بعض الأسطر من الحروف وهذا وإن دلّ فيدل على تمكن الكاتب من لغته وحسن وصدق تعبيره بالحد الذي ينقل الأحداث والشعور للقارئ...
أربع شخصيات من بيئات مختلفة قدّر لهم اللقاء لمدة من الوقت لكن لكل منهم تأثير في حياة الآخر يظل مدفونًا في صدورهم وإن غاب ذات الشخص عن حياتهم، أليست هذه سنة الحياة؟! أن جميعنا فترات في حيوات غيرنا ؟
سليم حقي مصري أصيل ذو نخوة ومروءة رفض الخضوع للإنجليز وهم يطلقون الرصاص على إخوته المصريين فأودى ذلك بمستقبله كله ورفد من عمله كضابط، يسير في الأرض محاولًا العثور على المال من أجل علاج زوجته، ربما في لحظات مرضها كانت بحاجة بحنوه ووجوده بجانبها وتنازله عن كبريائه لتشفى مما أصابها ولكنه كان قد فقد الثقة في نفسه بعد رفده وكان يري نفسه غير مستحق لوجودها في حياته فأراد أن يثبت ذلك لنفسه قبلها بتوفير المال بأي طريقة ممكنة فتارة يدخل في صراعات الديكة فلا يناله منها إلا الضرب المبرح وتارة في سباقات الخيل التي كانت سبب إلتقائه مع مرعي المصري...
مرعي المصري سمسار في سباقات الخيل، أو كما وصف نفسه عربجي يدرك في قرارة نفسه بذلك وأنه لا يستحق أن يحب لذلك عدما وجد من أحبته، تبتر عليعا وأذاقها من المر ألوانًا حتى فضلّت الموت علة حياتها معه، ولكنها لم تغادره ولم تتركه فدائمًا ما كان يشعر بها معه تحدثه وتلوم عليه، تفرح لحزنه وكأنها تشفي غليلها منه ومما أذاقها، استغل فرصة احتياج الليدي ميتسي لمن تثق فيه للمشاركة في سباق الخيل...
الليدي ميتسي امرأة إنجليزية فقيرة عشقت حب الخيل من ولدها فكانت تراهن عليها لتكسب المال لتأتي له بالدواء ولكنها مات، وعاشت على هذا الأمل أن تكسب في رهانات الخيل فيعود لها ولدها، تزوجت من أحد الأثرياء لتضمن هذا الأمر فالكثير من المال تراهن به، سجنت نفسها في فكرة وهمية وعاشت لتحقيقها، وعندما كتب لها الفوز ولم يعود ابنها وقتها أدركت أنها تعلقت بوهم لتعيش ولتستمر في حياتها، فأصابها الوهن والضعف وأدركت وحدتها فتسولت تطلب الحب وكأنه سبيل الخلاص ولكن هذا أيضًا بخلت به دنياها عليها، وعندما جاء ممن لا تريده رفضته، وهذه معضلة كونية نريد الحب من شخص معين فإن لم يأتي وأتى من غيره تمردنا وكأننا لنا الحق في تحديد ما نريد بل والتشرط أيضًا بكيفية حصوله، ألسنا عبيدًا لرب السماء ؟ فكيف يضع العبد نفسه بمنزلة الرب الواهب الرزاق؟ حاشا...
فوزان في الرابعة عشر من عمره توكل إليه مهمة توصيل الفرس شمعة التي شهد ولادتها لللأفندية في مصر والعودة بذهبات عمه إلى جزيرة سعود وذلك بعد أن ابهرهم فوزان بمهارة وسرعة فرسه شمعة وفوزها في السباق على الأبطال وإلا ناله من عمه، يدرك جيدًا أن عمه سرق ماله ومال أبيه بعد أن قتله ويجعله يشتغل عنده مثل العبد، فكان ذلك سبيل لقائه بسليم ومرعي والليدي ميتسي، فتى بدوي يعيش في الصحراء ينتقل فجأة لعمار المدن حيث هيليوبلس التي بناها البارون امبان أوما يعرف الآن بمصر الجديدة، يدرك أن الحياة بها سباق يأكل القوي فيه الضعيف وأنها لا تقارن بحياته في الصحراء وكثيرًا ما تمنى عودته لأمه بعد أن ذاق مرار العيش بها، يتعرف على عايدة زوجة سليم المرأة البيضاء الطيبة التي لم ير في جمالها....
قد تصنف الرواية ضمن الروايات النفسية ففيها الكثير من الصراعات بين صفحات الرواية وإن كان أكثرها بين الشخصيات أنفسهم فمنهم من يصارع وحدته ومنهم من يصارع نفسه ليهرب من كونه سبب في انتحار أحبته ومنهم من يصارع ثقته بنفسه، ومنهم من وجد نفسه في صراع لا يدرى له مخرجًا...
تحتوى أيضًا على بعد عقدي تتمثل في لماذا خلق الله الشر والمرض؟ ولماذا لا يحدث كل ما نريده؟ ولماذا لا يستجيب الله دعاءنا بما نريد ؟ وهذا الأمر يدخل تحت باب الإيمان بالقضاء والقدر وأن كل ما يحدث لنا هو لعلة يعلمها الخالق سبحانه ومالنا سوى التسليم المطلق فهذا مُلكُه يُحدث فيه ما يشاء وقتما يشاء كيفما يشاء وما نحن إلا عبيده..
سبق وأن ذكرت أنني أؤمن أن الكتاب هو من يختار صاحبه، أو أن القدر يسخر لك ما يعينك على عقبات حياتك وقد يكون ذلك في صورة كتاب، ويزداد إيماني بهذا مع الوقت فقد حدث هذا معي ثانية أثناء قراءة الرواية..
يؤخد على الكاتب استخدام لغة ثلاثينات القرن العشرين وإن كانت لم تؤثر كثيرًا على فهم الأحداث، ولكن مع إدراكي التام أن أحداث الرواية كانت تقتضي هذا الأمر ولكننا الآن في ثلاثينيات القرن الواحد وعشرين بعد حوالي مائة سنة من أحداثها فأين للقارئ بمعرفة ممعاني هذه الألفاظ إن لم يكن متمرس في اللغة ؟