إلى متى ستظل السياسة والجغرافيا تقسمنا كعرب؟ هو السؤال الذي تبادر لذهني وأنا أتابع الجدل حول فوز رواية الكاتب الليبي محمد النعاس "خبز على طاولة الخال ميلاد" بين من ينسب فوزها لحصة شمال افريقيا وبين من ينسبه لعلاقة عرضية بين بطل القصة ويهودي ليبي استضافه في تونس مما دغدغ عواطف لجنة التحكيم التي تسعى إلى التطبيع مع الكيان المحتل، أو لاحتوائها على ألفاظ وأوصاف خارجة، ومعظمها تبريرات بهدف الجدل وركب الترند ورفع مستوى العنصرية كما العادة عند أي حدث ثقافي أو إعلامي أو حتى رياضي عربي.
لا أحاول بمراجعتي هذه أن أفرض رأي على احد، ولكني من الفريق الذي يصر على أن وظيفة الادب وبالذات الرواية والشعر هي الامتاع وليس تقديم الحلول او الوعظ الاخلاقي الذي له فروع أدبية أخرى تهتم به. وأيضا من الفريق الذي كان له الحظ بقراءة معظم الروايات التي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر والتعرف على أقلام واعدة من كل الوطن العربي ( أربعة من أصل ستة اكملتهم واثنتين لم استطع إكمالهما).
في روايته الاولى "خبز على طاولة الخال ميلاد" تمكن النعاس من شد انتباهي وجذبي إلى عالم ميلاد الخاص طوال المدة التي أمضيتها في قراءة الرواية، لدرجة اني حزنت عند انتهائها وخاصة اني تعاطفت مع ميلاد الباحث عن رجولته داخل مجتمع لا يريد ان يحيد ولو قيد أنملة عن التعريف التقليدي لمعنى الرجولة المتمثلة بالقسوة وعدم إظهار العواطف والتعامل النمطي مع المرأة كتابع وليس كشريك. كان ميلاد يجلس قربي ويخبرني قصته، حتى اني دخلت معه المخبز وشكلت معه العجين وشممت رائحة الخبز الطازج وشعرت بكل مخاوفه وهواجسه وأحساسه بالدونية وبعدم جدوى حياته ومحاولاته المتكررة لانهائها، وحتى اني أوجدت تبريرات للنهاية الصادمة والغير متوقعة للقصة.
لست بصدد حرق الأحداث، وسأترك لكم متعة قراءة الرواية بغض النظر عن أحقيتها بنيل الجائزة بل على الأقل كفرصة للتعرف على عمل أول لكاتب شاب من بلد عربي عاني وما زال من ويلات الحرب واستطاع رغم ذلك ان يضيف إلى المشهد الثقافي العربي برواية متماسكة مكتوبة بلغة عربية فصيحة مليئة بتفاصيل جميلة عن بلد ومهنة وتقاليد وأفكار لا نعرف عنها الكثير رغم تقاطعها في أكثر من مكان مع معظم أفكار وتقاليد مجتمعاتنا العربية.
من الرواية:
"هل أخبركَ بنقيض الحبّ؟ نقيض الحبّ ليس الكراهية، نقيض الحبّ مختلفٌ تمامًا عن الكراهية، إنّه اللامبالاة، التبلّد، التباعد رغم العيش في مكان واحدٍ، ألّا تبتسم في وجه الآخر بعد أن كانت مجرّد رؤيتك إيّاه تمكّنك من الطيران، أن تنطق كلماتك اليوميّة «صباح الخير»، «نعم الغذاء جاهز»، و«قهوة؟» خالية من الدفء، كأنّك تتحدّث مع موظّف في السجلّ المدنيّ بالبلديّة."
"تمرّ بي مشاعر الأبوّة، وتشتدّ على صدري، في كلّ مرّةٍ يخرج فيها رغيفي ناضجًا وجميلًا يدعوني إلى قضمه، فأخاف من هذه الفكرة، وأهرب من الخبز أيّامًا حتّى يخفت الطلب الملحّ على عقلي"
"كانت الأبوّة حلمًا مرتبطًا بالخبز. لطالما أردتُ أن أطعم أطفالي ممّا أنتجه، أن أرى الحماس واللهفة في أعينهم، بينما يقفزون حولي ينتظرون أن ينضج خبزهم"
"للرائحة تأثيٌر خطيرٌ على نفسيّة الإنسان، الرائحة والموسيقى يمكنهما أن تشعلا كلّ المشاعر المتناقضة التي تخالجك، يمكنهما أن تقوداك إلى الجنون، أو الانتحار، آه ما أجملها"
"إذا دخلت المطبخ لأبدأ العجن، أصبغ مخاوفي، سعادتي، طموحاتي، مطامعي، رغباتي، حزني، كآبتي، شهوتي، دموعي، شكوكي، لهفتي، اطمئناني، سكينتي، روعي، قلقي وجفافي في رغيفي الذي يظهر بشكل تلك المشاعر. الرغيف السعيد مرحٌ، الرغيف الكئيب كجثّة قنفذ، الرغيف الخارج من سكينة يديَّ يخرجُ هادئا، يمتصّ الخبزُ مشاعري ويجسّدها أمامي. كنتُ آكل رغيف الكآبة ناسيا إضافة الملح إليه، ورغيف الشهوة بملح زائد، ورغيف الشكّ قاسيا وجلفا. تأثّر اختياري الرغيفَ الذي أعمل عليه بمزاجي العامّ، كما تأثّر عملي على الخبز بفصول السنة."
"علاقتنا مع القمح تشبه تلك التي تربط السيد بالعبد، هو السيد في هذه العلاقة ونحن عبيده، وعرفت أن هذه العلاقة ذاتها جعلتها مهووسة بالخبز. إنه يعمل على مستويات كثيرة في العقل البشري، لم يشبع الإنسان قبل اكتشافه الخبز"