أمام أشياء كهذه، مشاعر كالتي خضتها منذ قليل فور انتهاء الرواية وانتهائي معها، دموع كالتي ألفتها في نفسي كلما انتهيت من قراءة الأستاذ، تبدو النجمات الخمسة شيء سخيف، وكتابة مراجعة تحوي أسباباً تبدو لي أسخف وأسخف!
لايسعني سوى تذكر تلك اللحظة الماضية عندما كنت صغيراً، غارقاً في أوهام المراهقة وقراءة مجلات ميكي وماوراء الطبيعة وماتيسر لعقلي من الأشياء الخفيفة، يومها أخبرني أبي -وهو الذي لم يعرف سوى قراءة الصحيفة كثقافة- أخبرني أن الدولة ستحتفل اليوم بميلاد (نجيب محفوظ) وأخذ يعدد ماستفعله الدولة في هذا اليوم، وقتها قلت له: كل ده، ليه يعني؟!
الآن أود لو امتلكت آلة زمن، أعود بها إلى عصره وأحج إليه لأرتمي تحت قدمه وأخبره بحدوث المعجزة!
لقد بكيت يا أستاذ، بكيت، حدث هذا (لمجرد) أن شيئاً أعجبني، وليس لأن أحد الأفلام زود جرعة الحزن، أو لأن أحدهم ألّف كتاباً يرثي فيه مرارة الواقع وبؤسه، أرفع رأسي فأجده يبتسم متكئاً على عصاه ونظارته السوداء تخفي عينيه، يتكلم أخيراً ليقول:
-يااه، كل ده، ليه يعني؟!
فأعتدل في جلستي فوق البساط، وأخبره أنه ليس مجرد كاتب أو أنه الكاتب الحق:
-يا أستاذ أنت تؤرخ بينما تكتب، وتعرض ثقافات وطبقات مختلفه وتتناول كل جوانب الأشياء، لايلزمك أن تحدث جريمة قتل أو يحل الفناء حتى تبهر الناس، الصغار منا يمارسون تلك الأشياء الآن، أما أنت! أنت هو (أنت) ولا غيرك سواك.
فيقول ضاحكاً:
-يابني أعفيني من هذا الكلام، لقد نلت كفايتي بعد أولاد حارتنا.
فأصرخ:
-دي عالم عقولها خاوية! ياكبير!
فينتفض لصرختي. نصمت لحظات معاً، أتأمل ملامحه وأتشربها، بينما أراه يحدق في الفراغ، يتنفس.. أخيراً يقول:
-لقد طُوي هذا الزمان وولّى، ولا أذكر من قشتمر سوى صفحتها الأخيرة.
قلت له:
-لا والله لم يُطوى شيء، أقسم أن أقرؤك كاملاً، وسوف تحيا.
-رايح فين؟
استدرت برأسي وأنا متوجه إلى الباب، وقلت له:
-رايح اقرا.
فسألني:
-وماذا ستقرأ؟
قلت:
-والله حابب افصل شوية وآخد نفسي، غالباً شيء جديد، فقراءتك تخلف في نفوسنا وأرواحنا آثاراً كالعدوان يا مولانا.
فقال:
-آه، طيب ابقى تعال لتزُرني.
فأستدير حتى أصبح في مواجهته، أقترب منه وأخرج هاتفي، أفتح الفيس بوك متجاهلاً تعجب الأستاذ من الشيء الذي أمسكه، أدخل صفحتي الشخصية وأريه ماكتبته منذ قليل، فيقرأ:
"في بيتي لا أجد الخصوصية المطلوبة للبكاء ولا القدسية اللازمة لممارسته ولا الهدوء الواجب لآداءه، فكلما أفلتت دموعاً سمعت تساؤلات عن الأسباب، تلك التي أجد عسراً في ذكرها دوماً، تسألني أمي بحنان بالغ وقلق اعتدته منها، وهي التي تفترض دوماً أن هناك (شيء ما)، فأجيبها بأنه لاشيء هنالك، أو أخبرها أن الأسباب كثيرة وهي تعرف أغلبها، المشكلة يا أمي أن البكاء قوالب، وعلى كل قالب أن يجد من يناسبه أولاً، حتى يفصح عن نفسه ويتبسط، قد أحكي لك عندما تؤرقني معاناتنا المشتركة، لكن هناك أشياء تحتاج لآخر لم يوجد بعد، هناك بكاء آخر قد أخبر به صديقاً أعلم أنه خاض ماخضته، أنواع أخرى قد نفصح عنها أمام شاشات التليفزيون وسط جماهير تبكي مثلنا، وهناك نوع خاص أمارسه عند انتهائي من قراءة شيء خطه (نجيب محفوظ)، كما فعلت منذ قليل فور إتمامي رواية "قشتمر"...
الآن فقط أتذكر لماذا كتبت هذا الكلام."
ابتسم، فابتسمت معه، أعدت هاتفي وأنا أقول له مودعاً:
-يامولانا.. ابقى زورنا انت.
القاهرة
11 فبراير، 2015