معنى عميق ذاك الذي يأخذنا إِليه الكاتب في هذه الرواية ، "الشفقة" باب أراه مواربا فأختلس النظر لما وراءه لكن لا أرى كل شيء ، في هذه الرواية فتح الكاتب الباب على آخره ولم يكتف بذلك بل أمسك بيد القارئ و جذبه للدخول لهذا العالم و رؤيته بوضوح ..
الحق أن هذا المعنى "الشفقة" حينما تطلع عليه ترى بداخله الكثير من المعاني التي تصف دقائق في الحياة ، معانٍ قادت إليها الشفقة ، كنت أراها حبل يربطه الإنسان الذي يتوجه بهذا الشعور للآخر فيخنقه به ، هنا تبين أن من يتوجه بهذا الإحساس للآخر قد يخنق نفسه أولا فيعيش في الحياة بلا حياة .
هذا ماحدث مع الملازم أول "هوفميلر" حينما أشفق على "اديث" الطفلة كما يراها والكسيحة كما يراها الجميع ، قادته شفقته إلى زيارتها بشكل يومي ثم إلى بث أمل في الشفاء ظن أنه حقيقي فاتضح تداعيه ، لم يعالج ذلك بطريقة صحيحة فقد اكتشف أن تلك الطفلة البائسة تعلقت به و أحبته ، نظرت إِليه نظر امرأة لرجل بينما لم يستطع رؤية الأنثى فيها .
معنى الشفقة يظنه البعض مطاطيا يكبر كلما زادت معاناة الآخر ، غاب عنهم أنه -أي هذا المعنى-لا يحتمل النتائج التي قد تطال المشفِق جراء إتيانه بأفعال حمقاء نتيجة هذا الشعور ، هنا يبدأ المعنى بالتشقق حينما يزيد حمله حتى ينفجر فيتحول معناه من "شفقة" لشيء آخر بعيد عن أي شعور إنساني ، قد يذهب بالمشفِق بعيدا بعيدا للطرف الآخر حيث لا يعود يرى سوى نفسه فقط ولا شيء سواها ، بالتالي قد يظلم أو يجرح من لم يتسبب له بأذى .
وهذا ما حدث للملازم هوفميلر حينما أعطى وعدا و فتح بابا من الأمل ل"اديث" ثم عاد و صفقه بشدة عندما أشار إِليه الكولونيل بالابتعاد لمنطقة أخرى فغادر هربا من شعوره ، و هربا من حب لم يوقظ شيئا فيه .
لأي شعور هناك مرسل و متلقي ، المتلقي هنا هي "اديث" التي لم تر جمال الحياة بسبب معاناتها ، و استلمت الشعور الذي بثه هوفميلر كحبل نجاة يجرها مما هي فيه للحياة ، أحبته و أعلنت له ذلك و لم تقبل منه بشعور آخر غير الحب حتى تظاهر بذلك إرضاء لها ونتيجة لشفقته عليها ، يبدو أن "اديث" الضعيفة كانت بيدها قوة استمدتها من ضعف هوفميلر أمام شعوره بالشفقة فاستطاعت ابتزازه بطريقتها لتطوقه بوعد حنف به فكانت النهاية مأساوية .
جدير بالذكر أن هذا المعنى "الشفقة" ماكان ليقود لنهاية مأساوية بهذا الشكل لو كان المشفِق صاحب شخصية قوية يعلم أين يتوقف و كيف يتصرف .
في الرواية صوت واحد هو صوت الملازم هوفميلر ومن خلاله نسمع الأصوات الأخرى ، أعطى ذلك جوا من الحميمية و كأنه يحدثك أنت وحدك ليبث لك ما مرّ عليه في حياته .
الترجمة كانت ممتازة ، اختيار الكلمات كان معبرا جدا ، في الرواية كثير من الأسطر التي جعلتني أمر عليها أكثر من مرة لبلاغة معناها .
خارج النص :
حينما نتصرف نتيجة لشعور ما هل يفكر أحدنا في وقع تصرفه على الآخر ، ماذا يلمس فيه ؟ أو ماذا يحرك ؟ لا يسعنا ذلك دائما فهو أكبر من طاقتنا .. هذا أحد تعقيدات الحياة و العلاقات الإنسانية !