السيدة من تل أبيب > مراجعات رواية السيدة من تل أبيب > مراجعة أروى الجفري

السيدة من تل أبيب - ربعي المدهون
أبلغوني عند توفره

السيدة من تل أبيب

تأليف (تأليف) 3.7
أبلغوني عند توفره
هل قرأت الكتاب؟
  • قرأته
  • أقرؤه

    الى أين وصلت في القراءة؟

  • سأقرؤه

    هل بدأت بالقراءة؟نعم


لا يوجد صوره
5

الأعمال الواقعية أو التي توحي لك بذلك يغلفها سحر يجعلها تنفذ إلى نفسك ، هذا السحر قد يلهيك عن الانتباه إلى الأسلوب أو طريقة العرض لتغوص في التفاصيل ، لكن في هذه الرواية ثمة سحر آخر أقوى تأثيرا هو سحر الكلمة و سحر المشاعر! 

أعني ب"الكلمة" أي اللغة و الأسلوب و الوصف ، الرواية كُتِبت بأسلوب شاعري ، التعبير يمطر جمالاً ، أجدني أتوقف أحياناً عن القراءة لأتذوق ما قرأت قبل أن أعود و تغترف ذائقتي من هذا الجمال . 

بعض التعبيرات التي توقفت عندها "الشمس المستعملة" و "قُبلة معتقة" ، و غيرها . 

يقول الكاتب "لا يعرف وليد أنه سوف يستيقظ في الصباح على ضوء شمس مستعملة مرت بمستوطنة دوغيت اليهودية ، تدريجيا سوف يستوعب الظاهرة الغريبة و يفعل ما يفعله الآخرون : يغسل الشمس بالأماني و يخلصها من ظلال الاحتمالات ... "     

الرواية أيضاً غنية بالمشاعر ، هي رواية حيّة عشت كل مافيها لحظة بلحظة فلم تغادرني متعة قراءتها حتى أنهيتها .

 

ليست هناك أحداث تتطور على مدى الرواية ، هي مجرد وصف لمشاعر فلسطيني مغترب ، عاد ليرى الحياة في بلده فوجدها غير تلك التي تركها ، رأى ماحلَّ بالأرض و البشر ، فظل يروي التغيرات التي طرأت على الناس و القصص التي يروونها ، ذكاء الكاتب ظهر في الحوارات و طريقة صياغتها بحيث تبدو حوارات يومية لأشخاص عاديين و في نفس الوقت عميقة تحمل الكثير و تصف الوضع في غزة كما هو أو بالأصح كما يراه . 

ابتدأت الرواية بلقاء وليد دهمان -الفلسطيني المغترب - ب"دانا" الممثلة الاسرائيلية و انتهت بما حدث لها ، رغم أن حضورها كان قوياً في البداية إلا أنه بهت بعد ذلك ، وكان التركيز على وليد دهمان ، لذا فإني لا أرى اسم الرواية مناسبا إذ أنه أوحى بغير ما قرأت . 

 لم أقتنع بالألفة و الحميمية التي نشأت بين وليد و دانا خلال الخمس ساعات و هي مدة سفرهما بالطائرة ، لكن يمكن التجاوز عن ذلك فلا شيء مستحيل على الطبيعة الإنسانية . 

    

نقلتني الرواية عبر الطائرة مع وليد ودانا لمطار بن غوريون في الأرض المحتلة ( لا أستطيع أن أقول اسرائيل ) ثم مع سائق التاكسي إلى معبر ايريز ، وهناك ظللت منتظرة مع وليد لساعات حتى أستطيع الدخول لغزة ، فرأيت معاناة الفلسطينيين و عشتها معهم ، ثم أخيرا تم السماح لوليد بالدخول فدخلت معه ، وجاءت اللحظة التي توقعتها أشد تأثيرا في الرواية وهي لحظة لقاء وليد بأمه بعد فراق دام ثمان و ثلاثين عاما ، توقعت أن تتجمع السحب في عيني لتمطر بغزارة ، توقعت أن يرتج قلبي لهذا الحدث فلا يثبت سوى بعد انتهاء اللحظة و بعد أن تقر عين كل منهما برؤية الآخر .

لكن لم يحدث أي من ذلك ، لم تصلني حرارة اللقاء و مرّ بكلمات مقتضبة من الكاتب ، لم تطل اللحظة و لم يرتج قلبي و لم تهطل الدموع سوى عند مشهد آخر لم أتوقعه ، مشهد "محمد خديجة" أحد أصدقاء وليد الذين جاء لرؤيتهم ومعرفة ماذا فعلت بهم الدنيا بعد هذا العمر فوجده مفترشا حصيرا أمام المستشفى بجانبه عصاه ويده ممدودة يتسول من الآخرين ما يجعله يعيش .

صاح وليد .. صاح بلا صوت إذ حُبِسَت الكلمات بداخله ، قال مخاطبا صديقه بصوت لم يصله ، صوت لم يجد منفذا لخروجه، فخروجه سيزيد من أسى صديقه، فارتدّ للداخل "من حوّلك إلى شحاذ يلم الشيقلات بكف كانت لفنان عظيم ؟ من جعلك رغبة مفتوحة على الذل و عبارات الاسترحام وطلب الصدقة من غريب؟"  

بعد ذلك يدور بينهما حوار دون أن يفصح وليد عن هويته لصديقه بل يجعله في حيرة ويتركه ، يصرخ محمد عند ذهاب وليد "انت مين ياغريب و مش غريب ... انت مين يابن الحلاااااااااال"   

بعد هذا المشهد و بعد العاصفة التي حلّت بمشاعري ، اتفقت مشاعري جميعها مشاعر الحزن واليأس و الدهشة و الفرح و الحنين والشوق اتفقت على الوقوف دقيقة صمت ! 

لم يكن هذا الوقوف ل"محمد خديجة" بذاته ، إنما وقوف للإنسان ، لأي إنسان عبثت به الحياة على هذه الأرض  و لم يستطع سوى الاستسلام لمصيره إذ أنه لا يملك خيارا آخر .   

يظهر في الرواية رأي الكاتب -من خلال وليد دهمان - في العمليات الاستشهادية بوصفها انتحارية ، واستهزائه بوفاء التي فشلت في تنفيذ العملية فتم القبض عليها من قبل المحتل .

وعندما أتى على ذكر الانتفاضة مدح الأولى و ذم الثانية ، فذكر أن بعد الانتفاضة الأولى كان هناك شيء من التعايش بين الفلسطينيين و الإسرائيليين وجاءت الانتفاضة الثانية لتفسد ذلك ، حيث كان اليهود يأتوا لمشاركة الفلسطينيين أفراحهم . 

فلم يعجبني ماذهب إليه من استحسانه للتعايش مع المحتل ، لست أرفض تقبل الآخر كما هو و التعايش معه مهما كان جنسه أو ديانته فالواقع يسع الجميع إلا المحتل، ألا يكفي أنه أخذ الأرض ؟ فهل بعد ذلك نعطيه مساحة في مشاعرنا فلا نكتفي بتقبل وجوده بل نجعله يشاركنا أفراحنا ؟    

رغم بعض الملاحظات البسيطة إلا أني أعجبت بهذه الرواية و رأيت فيها شيئاً من "الأدب الفريد" الذي قال عنه عبد الوهاب مطاوع -رحمه الله- "الأدب الفريد هو الذي تشعربعد أن تقرأه أنك قدأصبحت أفضل منك قبل قراءته وأكثر فهما للنفس الإنسانية وأكثر طيبة واستعدادا لتفهم آلام الآخرين" . 

بالطبع خمس نجمات و أكثر للجمال ، جمال الحرف و جمال المشاعر رغم الأسى الذي تحمله ! 

هذه الرواية كانت من ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام ٢٠١٠ ، أراها تفوق كثيرا رواية "ترمي بشرر" لعبده خال والتي فازت بجائزة البوكر ذلك العام .

Facebook Twitter Link .
1 يوافقون
اضف تعليق