ديوان (جدارية) للشاعر المميز محمود درويش ، فيه مساحات تحمل بعثرات قلم مفعم بحس مرهف ، و كأن اليد التي أمسكت به هي يد طفل نابغة بعقله فيرفض الرضوخ ، و طفل بقلب نابض يرحب بالخيال ،القلم هنا يخط لنا ما فاضت به أحباره ....
فيقول :
"أرى هناك السماء في متناول الأيدي
و يحملني جناح حمامة بيضاء إلى طفولة أخرى"
فالسماء ليست بعيدة بالنسبة له ، فهو قد إختار الإستعانة بحمامة وئام لتأخذه إليها ،و سرعان ما إكتملت طفولته و هو في أحضان السماء النقية .....
و من ذهوله بالمنظر أمامه قال :
"سأصير يوما فكرة"
ففي رحاب الغيوم أخذ يكتب بقلمه ما يشاء من أفكار لا يحدها شيء ،و أخذ يصورها كما يشاء و ليس كما يشاء من حوله ، هو الآن طليق الأفكار ،فيكمل قائلا :
"سأصير يوما ما أريد"
فلا شيء يعيقه الآن ، هو سارح فيما يرغب ، و يضعه نصب عينيه كما يتأمل الطفل ألعابه و هي أمامه و يفكر فيها أثناء غيابه ،فيظل يكلمها حتى تبادله الكلام و يتمثل له الخيال بجانبه .فإذا به يردد إسمه لها و ينثر حروفه في تلك السحب ،سحابة سحابة، معلنا :
"يا إسمي سوف تكبر حين أكبر
سوف تحملني و أحملك
الغريب أخ الغريب"
تخفت الغربة تدريجيا في هذا العالم الذي ولجه ، فيتجرأ أكثر و يمسك بخارطته الحالمة مبينا :
"فلنذهب إلى أعلى الجداريات"
فشرع في قص كل القصص التي ألفها و التي لم يألفها في صغره و في كبره ، فإذا بصوت يقاطعه قائلا :
"قال الصدى :
لا شيء يرجع غير ماضي الأقوياء
على مسلات المدى"
فعلق على عبارة الصدى بالتالي :
"و أنا الغريب بكل ما أوتيت من لغتي .
و لو أخضعت عاطفتي لحرف الضاد ،تخضعني
بحرف الياء عاطفتي"
هو يتساءل هنا عن غربته ، و عن حرقة قلبه ، و عن كينونته الشعرية ، كيف يعيش بغير قلمه ؟! هل القلم كفيل بتسطير كلماته في عقول الناس ؟!
فأصبح يبكي واقعه بقوله :
"الواقعي هو الخيال الأكيد"
صارت حروف كلماته متباعدة و الرحيل يراودها مصرحا :
"الوقت صفر"
هنا يمسك شاعرنا قلمه بيد و من ثم يضمه بين يديه ، وقال معاتبا الوقت :
"رأيت بلادا تعانقني
بأيد صباحية"
و تبسم بعدها إبتسامة باح فيها بالنالي :
"أنا من يحدث نفسه"
و تحولت الإبتسامة المتعبة إلى ضحكة قال فيها :
"أنا من يحدث نفسه و يروض الذكرى "
ضحك لإنه لامس موهبة لطالما تمتع بها و هي معاندة واقعه المتألم ، و سرعان ما أصدر هذا المرسوم :
"حرورا جسدي"
و همس في أذن الوقت ساخرا و مودعا و مفتخرا قائلا :
"و إسمي -
وإن اخطأت في لفظ إسمي على التابوت –
لي "
هو الآن يراقب وقته و هو يضيف إسمه فيه !