اقتباسات من رواية تغريبة القافر

فالأعمى من أصحاب الجاه بصير بمكانته، والجبان قويّ بماله أو بانتمائه لبيت يعصمه، أمّا هم الفقراء الّذين لا يجدون ظهرًا يحميهم ولا مالًا يرفع من شأنهم فيكونون عرضة لألسنة النّاس ولتجريحهم في كلّ بقعة ‫ .

بيقولوا فقير وشوره دمير ‫ كانت الشّمس تميل ناحية الجبال البعيدة، هناك، حيث تغرب مخلّفةً كائنات وبشرًا يلتحفون العتمة حتّى موعد شروقها الجديد ‫ هبط الرّجلان التلّ وذهبا إلى القرية كان الدرب يسيل بحكايات وأحاديث سمعها الوعريّ في ذلك اليوم،

حزن سلام بن عامور الوعري حزنًا شديدًا على وفاتها، وصار يختار اللّيالي المظلمة ليقضيها جالسًا عند قبرها، يحدّثها عن تلك اللّواعج الّتي عاشت في صدره، ويخبرها بحكاياته الّتي ودّ لو أسمعها إيّاها منذ زمن.

دفن القافر أباه في صبيحة ليلة عرسه، ثمّ ترك قرية المسيلة برفقة زوجته، وعاد حزينًا مكسورًا، يملأ الفقد روحه ‫ أمّا أهل المسيلة فقد استمرّوا في الحفر حتّى وصلوا إلى موضع أمّ الفلج، واصلوا العمل أشهرًا ببطء شديد متّخذين كلّ الاحتياطات.

البلاد بو تستغلّك وتاخذك تمرة وبعدين ترميك فلحة ما بلاد، باه سالم دور على بلاد غيرها، البلاد بو تنكر جميلك ما تستحقّ تعيش فيها ساعة عطشان أسمع صوت أمّك، أسمع ضحكتها، باه صوت أمّك جنّة، ويدينها كانت حياة» ‫ ظلّ سالم في مكانه

٩

٩

والوعري سلام ود عامور صاحب قلب شجاع لا يخاف البتّة، فهو لم يتوان قطّ عن فعل شيء طُلب منه أو قرّره من تلقاء نفسه يتسلّق النّخيل العالي والقمم الصّعبة أو يهبط إلى أمّهات الأفلاج الغائرة في العمق والآبار القديمة ذات

نصرا بنت رمضان، الفتاة التي سكن بيت أبيها، نصرا ذاتها الطفلة التي مرّت بقريته في زيارةٍ خاطفةٍ ذات يوم، ثمّ لحقت هي وأمّها بأهلها ذاهبين إلى قريتهم البعيدة، نصرا البنت الوحيدة وسط مجموعة من الصبيان ، المدللة ، المحبوبة من الجميع.

يسحبه ذلك العالم الحسيّ، عالم الأصوات المتداخلة إلى عمقه اللّذيذ، فيشعر بذاته تخرج وتسافر في كلّ مكان بحثًا عن الصّوت، حتّى صار يدرك تمامًا ماهية الأصوات الّتي يجمعها.

بو تستغلّك وتاخذك تمرة وبعدين ترميك فلحة ما بلاد، باه سالم دور على بلاد غيرها، البلاد بو تنكر جميلك ما تستحقّ تعيش فيها ساعة.

لكنّها القرى، لا يستجدُّ فيها جديد، فالنّاس فيها كما عهدهم وكما تحدّث عنهم والده عبدالله بن جميّل وأمّه الّتي ربّته كاذية بنت غانم، يَصومون عن الأكل والشرب، وقد يصبرون على الجوع والعطش، ولكنّهم لا يصبرون على الكلام.

كلّ حدّ يسقيه الله فهالدنيا من روح إنسان ثاني، كلّ حدّ عطشان الين يلقى لماه».

⁠‫ويلفّ ساعده حول رقبتها، ويجذبها إليه بلطفٍ لتستكين تحت كتفه ثمّ يقبّلها ويختتم مقولته:

⁠‫«انت عطشي وانت لماي»

تقول كاذية بنت غانم «الشّي اللّي تخاف منه قبل ما يصير، بيزيدك قوّة من يستوي»

أراد أن يبكي ولكنّ جبلًا عظيمًا كان يجثم على صدره ويمنعه من ذلك، حتّى عندما حمل النّعش على كتفه مع الآخرين، مشى به كالمسحور، غائبًا عن الميّتة الّتي يحمل أو المقبرة الّتي تُساق إليها.

تحسّس جدران الفلج بحثًا عن أيّ غذاءٍ يملأ به بطنه ومن شدّة جوعه تذكّر مقولة الوعريّ عندما سقطت ذبابة في إناء اللّبن وكان قد نبّهه إلى وجودها قائلًا: «فيه ذبابة» لكنّ الوعريّ غمسها إلى الأسفل وشرب كلّ ما في الإناء،

-تقدر توقّف كلّ هذا الوجع. بلاد ما تبغاك اتركها، دور بلاد تعيش فيها بكرامتك لو غريب، ولا تعيش فبلاد كلّ همّها ترميك بأمراضها.

-ما تقدر تغيّر فساد الناس، لكن تقدر تبتعد عنه.

فالأعمى من أصحاب الجاه بصير بمكانته، والجبان قويّ بماله أو بانتمائه لبيت يعصمه، أمّا هم الفقراء الّذين لا يجدون ظهرًا يحميهم ولا مالًا يرفع من شأنهم فيكونون عرضة لألسنة النّاس ولتجريحهم في كلّ بقعة.

شعرت بأنّ حديثها بلا جدوى، فلن يثني عزيمته شيء، وهي في قرارة نفسها مؤمنة به، لكنّهما يعيشان بين النّاس، ولا يمكنهما العيش خارج كلامهم.