أولا أنا سعيد لأن الرواية حائزة على ثلاث نجوم فى أبجد، تقييمها فى جودريدز كان أعلى مما تستحق
ـــــــــــــــ
هناك نوعان من القرّاء؛ نوع ينتبه إلى الشيء الجميل فى العمل الأدبى، ينظر إلى نصف الكوب الملآن منه، فيمنحه تقييم عالى ويخرج من غلافه مبتسماً ومنشرحاً، هذا النوع ينمّى عنده ملكة الشعور بالجمال والتفاؤل، أما النوع الثانى فيتعقب عثرات الكاتب، يتوقف عندها، يحللها، وينظر مليّا إلى مساويء العمل، هذا النوع من القراء ينمّى عنده ملكة النقد والتحليل، غالبا هذا النوع جاد وصارم، وغير حالم.. القاريء المحظوظ الجيد هو من يمتلك الملكتين معاً..
ــــ
كانت لدىّ دائما فكرة لطيفة أطرحها على نفسى بين الحين والآخر علّها تصبح ذات يوم مشروع يتنفس، هذه الفكرة كانت أن أعرف كل شعوب الأرض عن طريق الأدب بعيداً عن العلوم الإنسانية، أن أقرأ قصص لكل البشر ليس فقط الروس أو الإنجليز أو اللاتين (عُصبة الأدب العالمى) لكن ما المانع من أن أقرأ على سبيل المثال أدب أندونيسى أو جنوب أفريقى أو باكستانى حتى تلك الدول الفقيرة التى لاتسمع عنها إلا من أخبار المعاناة(هذا إن توفرت ترجماتهم أصلاً).. اقرأ أدبهم تعرفم، والمعرفة هى زروة العلم كما عند الصوفية، العلم يأتى من كتب الإنسانيات أما المعرفة فتأتى من دواخلهم.. من أدبهم..
بعد قراءة هذه الرواية اتضحت مدى صعوبة الفكرة ليست علىّ فحسب بل على الكاتب أيضاً، فهو مُطالب أن يتخطى حدود العلم إلى المعرفة، مُطالب بوصف عالم لا أعرفه، مُطالب بكل التفاصيل التى تُقنعنى بعالمه، وتجعلنى أخرج منها كخروجى من رحلة لطيفة بعيدا عن عالمى الواقع. وهذا أمر إن حدث فإن هذا العمل الأدبى بطبيعة الحال ينضم سريعا إلى عصبة الأدب العالمى لأنه حوى كل الصفات المطلوبة فى الأدب الموسوم بالعالمى، ونحن لا نقرأ من الشعوب الأجنبية إلا أدبهم العالمى، الأمر أشبه بالدوارن فى دائرة مفرغة! ففى النهاية لن نقرأ إلا الأدب العالمى، حتى أننى بعد هذه الرواية أخذت أفكر بجدية أن أقلل من قراءة الأدب وإتاحة الفرصة للعلوم الإنسانية، وإن قرأت الأدب فلا أقرأ إلا العالمى..
فى هذه الرواية بالذات ينقصها الشعور باللون الأسود، ينقصها البشرة السمراء، ينقصها النيل والشمس، باختصار، ينقصها روح السودان!
ــــ
لو قرأت هذه الرواية فحتما ستشدك اللغة، حتى أنى فكرت فى بعض الأحيان ألا أكمل قراءتها لكن رواية بتلك اللغة لا يجب أن تكون تلك نهايتها. وعند الحديث عن اللغة يحضرنى رأى لتوفيق الحكيم أورده فى كتابه "التعادلية مع الإسلام" فى معرض حديثه عن الأدب وهو أن هناك تعادل يجب الانتباه إليه فى الأعمال الأدبية حتى لا تهبط إلى درك الانحطاط والابتذال، وهو أن اللغة والأسلوب لا يجب أن يتعاليا على الفكرة فلا تكون ثوبا فضفاضا على جسدٍ ضامر، ولا أن تكون اللغة والأسلوب متواضعان بالنسبة لفكرة تحتاج إلى مجهود. اللغة هنا رنانة جدا ومتكلفة أحيانا، مثل فتاه أسرفت فى وضع مساحيق التجميل على وجهها، فبدلا من أن تصير أجمل صار وجهها مشوها..
الحشو:
أكثر ما يعيب هذه الرواية هو الحشو الزائد، حتى أنى قد أفتح صفحة عشوائية من الكتاب الآن ولا أتذكر بعض الأحداث المكتوبة، فأغلبها حشو، ولى بعض الملاحظات على هذا "الحشو":
- من قرأ الحرافيش لنجيب محفوظ سيلاحظ فى بداية كل فصل مقدمة لاتزيد عن خمسة أسطر على لسان الراوى (الكاتب) يعطى فى هذه المقدمة نبذة فلسفية سريعة، تشريحاً نفسياً، ثم بمجرد أن ينتهى هذا التدخل من الكاتب حتى تبدأ الأحداث فى الحركة وتبدأ الشخصيات فى التفاعل، هذا التدخل أشبه ب(ملح) الرواية، هذا التدخل من الكاتب مطلوب كما الملح بالنسبة للطعام، فى الحرافيش كانت نسبة التدخل هذا ضئيلة جدا بالنسبة لأحداث الرواية، ففى حالة زيادته تصير القراءة مملة، رواية مهر الصياح مكتوبة بلغة (الملح) هذه ( حيث تصبح الرواية أشبه بفيلم سينمائى تتوقف مشاهده بين الحين والآخر ليخرج علينا الكاتب وهو فى ثوب الناقد المُتعاطف ليشرح ماحدث وما يتفاعل داخلهم متأثراً بمعاناتهم، فيبتعد عن جوهر الأحداث، وحينها تصبح الأحداث عاجزة عن وصف نفسها بعد أن تولى أمرها تدخل الكاتب)
- تقنية الحوار تُستخدم لإبراز ما يفتعل داخل الشخصيات من عواطف ومشاحنات، إلا أن الكاتب لا يفعل هذا، بل يضطر إلى أن يذيل كل حوار بتدخله حتى يشرح لماذا قال وكيف قال.. حتى أنه فى أحد الحوارات كان هناك سؤال من أحد الشخصيات، أتت إجابته (المفترض أن تكون مباشرة) بعد ثلاثة عشر سطرا من التدخل المحشوّ، لك أن تتخيل أنك مضطر لتذوق كل هذا الملح!
غالبا هذه هى مشكلة الروايات؛ أن الكاتب مضطر لكتابة فكرة لمعت فى ذهنه فيما يزيد عن الثلاثمائة صفحة، فيضطر إلى الحشو لملأ الفراغات!
ـــــ
من الشخصيات الغريبة فى الرواية، شخصية حلحلوك المجنون:
كانت أمانيه أمام سلسة الكوراك سخيفة بعيدة عن الجنون، كأنه شاعر حداثىّ متمرس يكتب قصائده المطلسمة العصية على الفهم، كأن يطلب مثلا من السلطان بيتا ليس فى الأرض أو جارية بلا ثديين.. ذكرتنى بقصة كتبتها كانت فيها مجنون وكان يشحذ العملات المعدنية ليصنع منها قمرا كبيراً، وبمراجعة ما كتبته فيما بعد شعرت بسخافة الأمنية (يصنع من العملات المعدنية قمراً كبيراً)، فعدلتها لتصبح أعقل جنوناً!
- رغم لغة الكاتب القوية إلا أن هناك بعض القصور فى الوصف، كأن يصور هبوط قافلة محملة بالبضائع بإنسان يتقيأ! أو يصور استقبال نوافذ القصر لهبات النسيم بطفل يرضع، وغيرها من الصور التى استوقفتنى كصور ناقصة..
ـــــــــــــــ
فى الختام:
فإن القاريء ينتقد للوصول بالعمل الأدبى لحالة الكمال، وهذا أمر قد يكون محال، وهذه خسة أتلذذ بها، إلا أنها خسّة تتميز بالشرف والنقاء.
ـــ
إلا أن هذ العمل يتميز ببعض الإنسانية التى خففت من بعض مساوئه، فأمنية آدم التى أغضبت السلطان وعاقبه بتحويره وانضمامه إلى الرعاع البؤساء، حينها انتهت حياته الحالمة إلى حياة شبه ميتة، فى نهاية الرواية وبنهاية غير متوقعة تتحقق أمنيته التى لم يحلم بغيرها..
فمع أسوأ الأحوال هناك أمل، فقط.. احلم