البحث عن وليد مسعود
الفسيفساء البشرية
قد يصعب تناول الحياة الفكرية الفلسطينية دون أن نضع بعين الاعتبار التجربة المرة في النكبة 1948 و النكسة 1967 ، وجد جبرا الفلسطيني نفسه خارج المكان، على رأي إدوارد سعيد، فحياته كلها خارجية الهوى وخارج التجربة الجمعية الأصيلة .
القراءة في البحث عن وليد مسعود أشبه بالبحث عن التوازن ، ذلك التوازن الذي يخلخل المشي ثم يستقيم الجسد ثم يعود ليتخلخل، بصعود وهبوط ممنهجين يفضيان إلى عدم استقرار كان هدفه الأول هو بث روح الشك الدائم في النفس والبحث دائما عن الأصول وتعرية الأحداث مما يعلق بها من شوائب وأوهام وتقولات وتخرّصات، كما كان د.جواد يريد ان يفعل في كتابه عن وليد مسعود، أراد ان يزيل كل ما علق في حياة وليد وتاريخه من ما يعكر صفوها ليصل إلى المركب الأساسي والجوهر الأخير في حياة وليد التي اعتبرها غامضة ومليئة بالمفاجآت والتي تبطن أكثر مما تظهر .
تشكّل الرواية تجديدا على الصعيد الفني لأن الحدث الأساسي ينبع من علاقات الأبطال وتناقضاتهم ومن توتر علاقاتهم بالآخر والمحيط والعودة إلى الذات والوطن والحركة الدائمة التي تنقل الحدث حسب الراوي من زاوية جديدة ومن بعد جديد لم ينتبه له الراوي السابق أو أنه اخفاه لكي يحقق بذلك نصره الداخلي على خصمه الفكري
أستعمل جبرا اسلوب الاسترجاع وأسلوب تعدد الرواه الذي قدّم ديناميكية رائعة للنص بحيث تعلو نبرة الحوار وتهبط وتدخل باقي الشخصيات في مراجعات الراوي لنفسه كشخوص يكملون المشاهد ، وأسلوب المذكرات والاعترافات لإضاءة جوانب هامة من حياة الشخصيات التي كانت تتصل وتنفصل عن وليد مسعود بحيث تقدم لنا جوانب مهمة من حياة وليد بالتوازي مع إظهارها لتأثير شخصياتها على وليد او تأثير وليد عليها إن صح القول. لقد كان وليد مسعود كالبؤرة التي تربط كل شخصية بمحورها وبمجرد اختفاءه تشظّت هذه الشخصيات وأنفلتت من عقالها باحثة عنه في دواخلها أولا وفي الواقع المعاش ثانيا ، من مريم الصفار لإبراهيم نوفل لعامر عبد الحميد لكاظم لوصال "شهد" والكل بلا استثناء كان يقيّم وليد حسب ما كان وليد يضعهم في أحجامهم كانوا يرونه كما أراد لهم هو أن يروه.
لقد امتاز جبرا بتنوّعه اللغوي فهو يوزّع ثروته اللغوية على شخصياته، لغة الثقافة للمثقفين بتجريداتها وصلابتها الصارمة كما كان كاظم وجواد ، ولغة الشعر للشعراء برقتها وشفافيتها كما كان لوصال .
"بعد أن يقول الأشخاص ما يقولونه، بعد أن يبرزوا عن تصميم أو غير تصميم ما يبرزونه ويخفون عن تصميم ماأو غير تصميم ما يخفونه، يبقى لنا أن نتساءل عمن هم في الحقيقة يتحدّثون؟ عن رجل شغل في وقت ما عواطفهم وأذهانهم أم عن أنفسهم، عن أوهامهم وإحباطاتهم وإشكالات حياتهم؟ هل هم المرآة وهو الوجه الّذي يطلّ من أعماقهم أم أنّه هو المرآة ووجوههم تتصاعد من أعماقها كما ربما هم أنفسهم لا يعرفونها؟" ص363
الكل كان يبحث عن "من" وليد مسعود لا "أين" وليد مسعود، في الحقيقة وليد مسعود لعله أقرب ما يكون لملامسة لسيرة الكاتب جبرا نفسه الفلسطيني المقيم في العراق البرجوازي الذي يحاول أن يكون إحد مفاصل النضال الفلسطيني في داخله فمثّله على الورق بشخصية مناضلة ومساعدة للمناضلين الممثلة بإبنه مروان. وليد مسعود في الرواية هو حديث الذات وصراع الآخر ، هو نقطة الإلتقاء لدى كل الشخصيات ونقطة إنفصامها . إنه الفسيفساء البشرية ، التي شكلتها ألسن الرواه.
لقد تأثر الكاتب من خلال ترجماته للأدب الانجليزي وغيره بالكثير من الكتّاب ولعل هذا وضح في بعض زوايا الرواية مع اصرار الكاتب على نفي ذلك إلا ان ذلك لا ينقص من قوة العمل الكثير فالأسلوب الروائي المتبّع هنا لعله يقترب قليلا من كتاب فوكنر " الصخب والعنف" ولعل بعض المشاهد كاللحظة التي يعود بها د.جواد ومريم الصفار من المطار يستمعون لفيروز يماثل مشهد انطون روكنتان في رواية سارتر "الغثيان" إلا انني أقول ذلك مما لا يعيب الرواية في شيء حيث أن لها روحها الخاصة والمتفردة
رواية من القلائل التي سبقت زمانها وزمان كتّابها ومن الأروع في تشريح الداخل البشري والواقع المعاش بكل سلاسة وهدوء ورزانة .