المؤلفون > ممدوح رزق > اقتباسات ممدوح رزق

اقتباسات ممدوح رزق

اقتباسات ومقتطفات من مؤلفات ممدوح رزق .استمتع بقراءتها أو أضف اقتباساتك المفضّلة.


اقتباسات

كن أول من يضيف اقتباس

  • أم..

    داخل بيتِ قديم عجوزٌ تشعل أعواد البخور، كل ليلةٍ تصِّر على فعل هذا رغم صدرها الذي لا يتحمَّل، توزع خفوت بصرها فوق ملامح الأشياء القليلة التي تشاركها الوحدة والسكون، كأنها تبحث عن شيءٍ تنتظره وتخشى ألا تراه حين يأتي، بعد وقتٍ طويل، وحينما تقارب أعواد البخور على الانتهاء، تخرج صورة الطفل الذي كان يحجب رائحتها وتحتضنها، رغم بكائها تبتسم وتقول لنفسها إن الملائكة لديها بالتأكيد أعواد بخورٍ كثيرة .

  • في البداية استغرب الناس جدًا من هذا الفعل الذي اعتبروه غير لائقٍ برجلِ عجوز أمضى حياته بينهم متحليًا برجاحة العقل والاتزان النفسي، لكن استغرابهم تضاعف كثيرًا حينما اكتشفوا عند قراءة القصة القصيرة أنه لم يتعمّد عدم الالتزام بقواعد النحو أو عدم وضع علامات ترقيم فحسب، بل إن الجمل نفسها كانت غير مفهومة، كانت قصته عبارة عن كلمات ليس بينها رابط واضح، ومتراصّة بجوار بعضها فحسب، حينما حاولوا أن يستفهموا منه عن معنى كتابته، ولماذا يوزعها عليهم بهذه الطريقة رفض تمامًا أن يعطيهم أي إجابة، وواصل التوزيع حتى انتهت جميع النسخ التي بحوزته، تحدثوا مع زوجته، واتصلوا بأبنائه فاكتشفوا أنهم لم يفهموا أيضًا ما كتب في هذه القصة، فضلاَ عن أنهم لم ينجحوا في الحصول على أي توضيحِ منه، قرر رجال القرية الاجتماع لمناقشة ما حدث، وتركوا المجال في البداية للمشهود لهم بالثقافة والمعروفين بقراءة الكتب الكثيرة كي يحاولوا تحليل القصة، فاختلفوا في تأويلها ولم يقفوا على نتائج محددة ...

  • رأيتها تجلس على مكتب صغير في ( أدب ونقد ) .. بالطبع كنت أعرفها جيداً .. كنت أعرف من شِعرها، ومن الكتابات عن شِعرها، ومن قصص، وذكريات أصدقائها معها، ومما يقوله الجميع عن حياتها أنها أيقونة .. أسطورة شعرية .. أميرة خيالية قادمة من إحدى قرى الدلتا، خلّدت قاهرة التسعينيات بحكاياتها، وانتهكت بكتاباتها سلطة الآباء، والأمهات، والأطباء، والمناضلين، والمؤسسات، والمدارس الشعرية .. ليس فقط لأن شعرها جميل، وفارق، وحاد، وذكي، وعميق، وإنما لأن شخصيتها تحمل نفس السمات .. لم أتكلم معها في المرّتين، أو الثلاثة التي رأيتها فيها .. تأكدت فحسب من مراقبتها أن الملامح التي شكّلها الآخرون عنها حقيقية فعلاً .. طريقتها في إلقاء القصائد .. سكوتها .. كلامها .. ضحكها .. جلوسها وسط الأصدقاء .. مشيّها .. كل شيء يا دكتور .. هي ليست جميلة إطلاقاً، وإنما شاعرة جبارة .. لكن الموضوع أيضاً ليس الشعر فقط .. شخصيتها .. هي ذكية جداً، أو تقدر تقول عندها خبث الفلاحين بزيادة ( نعم أقصد هذا التعبير الانتقامي، المتعالي )، وهذا هو الفرق بينها، وبين أي شاعرة أُخرى كتبت شعراً رائعاً، ومرت معها في نفس الزمن، ونفس الأماكن .

    أظن أن ما جعلها ( هكذا ) ليست كتاباتها بقدر التجارب الحياتية التي قررت أن تخوضها، والنتائج التي أرادت أن تخرج بها، التي لم تقتصر بكل تأكيد على أن تكون مجرد شاعرة يُشار إليها كواحدة من قطيع يضم شاعرات جيلها .. تعرف يا دكتور لو كنت نمت معها في هذا اليوم كانت انتهت تقريباً كل مشاكلي .. كنت تقبّلت فشلي في التعليم، وأنني عاطل، ولا أطيق البشر .. كان بوسعي تحمّل موت أسرتي واحداً وراء الآخر .. كان بإمكاني حل مشكلتي مع الموت نفسه، ولم أكن اضطررت للمجيء إلى حضرتك كي أجلس على ( كرسي الاعتراف ) هذا يا عرص .. كأنني هنا كي أجد حلاً، وكأنك هنا لأن معك الحل .. أنت التائه، الممزق، معدوم القدرة، الذي يدّعي الاتزان، والتنظيم، والسيطرة، وتريد أن تختبيء في شخصٍ آخر يستطيع الفصل، والمراقبة، والضبط .. كأننا لا نفهم بعضنا جيداً، وكأننا لم نطرد الطمأنينة للأبد، ولم نضلل مُخبري العائلة، ولم نلقِ بمعقوليتها خارج الغلاف الجوي .. أنت تحاول أن تكون مثلهم: لا تبحث عن ما سيتضح تدريجياً، وإنما عما هو حاضر، معروف، ولكنه يهرب.

    أختي عمري ما رأيت جسمها إلا مرتين تقريباً، وبشكل خاطف جداً ومن زوايا بلهاء .. كان ذلك غالباً قبل أن أدخل الابتدائي .. كانت تغيّر ملابسها، ورأيتها تخلع سوتيانها بقوة لأعلى؛ فاندفع ثدياها بعنف لأسفل، ولم يكونا صغيرَين جداً .. كنت أقف وراءها من الجانب الأيمن، وهذا منعني من رؤية شيء سوى الحافة الخارجية لثديها الأسمر .. المرة الثانية كانت حينما طلع لها تقريباً دمّل بين فخذيها، وأتذكر أنني رأيت شفرتي مهبلها، وهي تفحصه .. قطعتان سوداوان، ملزّقتان من الجلد المتشقق المضغوط .. طبعا حضرتك ستسألني كيف عرفت أنه كان ملزّقاً، سأقول لك أنه كان واضحاً عليه لمعان سائل، لكنه ليس بللاً .. صدقني كان تلزيقاً .. الواحد يقدر على التفريق بالنظر حتى لو كان طفلاً صغيراً .. ستكون هناك مشكلة كبيرة بالنسبة لأمك يا دكتور لو لمحت الآن أي أثر لهياج على ملامحك.

  • تعرف ماذا فعلت يا دكتور؟.. كمذنب قرر التوبة بعد معصية.. أضفت إيميلها إلى الماسنجر طمعاً في الغفران، ثم جلست منتظراً عودتي إلى النعيم.. لم أكن أطيق روحي يا دكتور، ولا أطيق الناس، ولا الدنيا، ولا أعرف ماذا أفعل.. أريد أن أتصرف بسرعة لأعيد العالم إلى ما كان عليه قبل تعليقها على النص.. كنت أريد إصلاح الدمار الذي أصاب حياتي بعد ما كتبته عني.. قررت أن أتحدّث معها، وأعرف منها لماذا كتبت ذلك الرد.. طبعاً كان عندي ما يشبه اليقين بأن السبب يرجع إلى رفض أنثوي تقليدي لمشاعر رجل يكتب عن قتله بواسطة امرأة تحمّله مسؤلية آلامها، في حين أنه يفكر في نفسه كدوبلير يتلّقى العقاب بدلاً من بطل غائب، هو الوحيد الذي يستحق ذلك العقاب.. كنت أعلم أن في ذلك استفزاز ذكوري للجروح النسوية العادية، لكنني بصراحة لم أكن أتخيل أنها من الممكن أن تتورط، وتندفع بهذه السطحية وراء هذا الكيتش.. كنت أظن أن بمقدورها ترويضه أحياناً، إذا كان من الحتمي الاستمرار في خضوعها له.. كنت أريد التأكد من ذلك اليقين يا دكتور.

  • كأنني كنت أشعر بيقين تام أنني، وابنتي خالي مراقبين من الجميع.. في الطفولة يمكنك تخيّل أن المراقبة لا تقتصر على البشر، وإنما تشترك في مهمتها جميع الأشياء التي تحيط بك سواء كانت زخارف، ولوحات الحوائط، أو حتى أدواتك المدرسية.. أشياء تراقبك، وتسجّل كلماتك، وأفعالك، وربما أفكارك أيضاً، وفي وقت ما ستُبلغ أباك وأمك بها إن لم تكن قد أبلغتهما بالفعل أولاً بأول.. كنت أشعر بأن كل من حولنا يعرفون آثامنا السرية، وأن سكوتهم ليس إلا تحضيراً للجزاء الملائم.. أنهم ربما يعطون لنا فرصة آخذة في التضاؤل لعدم التمادي في الذنب، وإيقافه بإرداتنا قبل أن يزيد الاستمرار فيه من هَول العقاب.. العقاب الذي كلما تأجّل كلما أصبح أكثر بشاعة.. لكن الجزاء ليس كله ضرب، وإهانة يا دكتور.. ربما في أوقات غير محسومة قد يكون مجرد النبذ، التجاهل، الخصام المقترن بنظرات الحزن، وخيبة الأمل هو الجزاء الأعنف.. أن تتحول فجأة إلى الفاسد الملعون، الذي خان الثقة، وحطم أحلام الطيبين، المغلوبين على أمرهم‍!

  • لن أتمكن أبدا من العيش في كوخ .. الكوخ الذي حاولت بناءه مرة بوسائد وأغطية السرير ، ومرة بقطع خشبية قديمة في بلكونة الأسرة ، ومرات لا حصر لها بمبررات متغيرة للثقة في الغيب داخل روحي .. الكوخ الذي لم يكتمل بناؤه أبدا ليس بسبب حروب الآخرين ضد عزلتك ، ولا شهوة الطرد التي تواجهك بها كل الأماكن بقدر رغبة مبهمة داخل ذاتك في التخلص منه لا تنجح الأسباب الملموسة التي يمكن العثور عليها في تفسيرها .. رغبة قد يبدو حقا أنها نتيجة هزائم مدركة وأحلام يمكن التفاوض مع الدنيا بشأنها ، لكنك ستشعر في نفس الوقت بأن هذه الرغبة متجذرة في مركز أكثر عمقا مما يمكن تصوره .. أن قوتها الحقيقية تكمن في كونها إشارة خبيثة ربما تعطيك انطباعا أوليا بأنها لا تستحق الانتباه ثم تستوعب تدريجيا أن هذه الإشارة ما هي إلا إلحاح يعلن عن بداهته الأزلية دون تأسيس على تمهيد منطقي .. إلحاح منفصل عن الهزائم والأحلام وينمو دون تدخل منك أو من غيرك حتى يصل تصاعده إلى نقطة يصبح من الحتمي فيها أن تكون في الخارج .. أن تجبر على إبقاء نفسك بعيدا عن أي كوخ ترغب بشدة في أن تسكنه .

    مشاركة من Mamdouh Rizk ، من كتاب

    مكان جيد لسلحفاة محنطة

  • ربما جربت الثقة العمياء في قوة التصاق العالم بك ، التي توفر لانفصاله الحتمي عنك مرونته اللائقة .. كان لدي أيضا اطمئنان منطقي لذاكرة جديدة سينسجها تعاقب الأيام لن تحتاج مع ضماناتها البديهية لمساعدة كبيرة من التاريخ .. يكمن التضليل في إشراك الأشياء المنسية تلقائيا في الألم لمدى مؤقت .. ألا يكون الأذي حصيلة حصرية للروح في معركتها مع الفقد بالتزامن مع اليقين الذي يزداد رسوخا في أعماقها بأنها لن تتمكن أبدا من أن تعيش مرة أخرى فترة من اللحظات المتصلة التي ترغب في تجميعها من الماضي.

    مشاركة من Mamdouh Rizk ، من كتاب

    مكان جيد لسلحفاة محنطة

  • هل لذلك علاقة بالسيارة التي انفجرت فجأة الآن أمام محل العصير ، وبسلك الكهرباء الذي ترك عامود الإنارة ليسقط فوق رأسي في نفس اللحظة .. جاءت امرأة منقبة ومعها طفل صغير .. كان من الواضح أنهما زوجة وابن صاحب المحل ، وكان من الواضح من نظرات عينيها وصوتها وتفاصيل جسمها من تحت العباءة السوداء أنه رجل محظوظ .. انتبهت في نهاية كوب العصير إلى أن عيني الطفل تشبه كثيرا عيني أمه .. حاولت تخيل بقية ملامحها المتوارية بالتمعن في وجه الطفل .. كان جميلا .. شعرت بالرغبة في تقبيل فمه بقوة ولكنني تركت الكوب الفارغ ومشيت مبتعدا .. هل فهمت الآن ماذا تعني محاولة استعادة الماضي ؟

    مشاركة من Mamdouh Rizk ، من كتاب

    مكان جيد لسلحفاة محنطة

  • يذكر ( روبرت جونسون ) أيضا في كتابه ، والذي أعيدت طباعته أكثر من مرة كما ترجم إلى عدة لغات ، ولاقى انتشارا واسعا في العالم أن ( ماريا ) ظلت رافضة تماما أي نوع من الاستغلال لموهبتها مهما كان الإغراء المادي حيث رفضت عروضً سينمائية لا حصر لها ، وكذلك دعايات وإعلانات تجارية حتى المقابلات الصحفية والتليفزيونية وضعت حدا لها حين بلغت الثانية عشر ، كما أنها امتنعت أيضا عن المشي بظهرها في الأماكن العامة أو في المناسبات التي تشهد حضور عدد كبير من الأشخاص أو يتاح فيها التصوير بأي شكل .. لكن ( روبرت ) يذكر أن ( ماريا ) وافقت على الظهور مرة واحدة فقط ، ودون أجر عام ( 1974 ) في أحد أفلام المخرج الإيطالي الشهير ( اليكساندرو سيموني ) وكان بعنوان ( Justice ) حيث اقتصر دورها على المشي الصامت بظهرها لثوان قليلة في مشهد النهاية الذي جمع بين النجمين الفرنسيين ( أندريه روبير ) و( إيزابيل برنار ) وهما عاريان وسط نافورة في ميدان عام ، ويتبادلان قذف أشلاء وعظام بشرية على بعضهما بفرح .. لكن المجلة تذكر أنه في عام ( 1975 ) أيضا سمحت ( ماريا ) لشركة ( Gut ) الألمانية باقتباس موهبتها في قصة فيلم كارتون من انتاجها وكان بعنوان ( Schönheit ) .. جسد الفيلم حياة الطفلة الصغيرة ( كارولين ) التي تعاني من الوحدة والاضطهاد الأسري والمجتمعي بسبب إصرارها المتواصل على تقمص شخصيات الحكايات الخيالية القديمة .. في أحد مشاهد الفيلم تتخيل الفتاة أنها تمشي بظهرها بينما عينيها مثبتتين بحزن على والديها وأخواتها وهم ينظرون إلى انسحابها من حياتهم بحسرة لتعبر وسط ضحكات وسخرية أهل المدينة حتى تصل في النهاية إلى عالم سحري يتيح لها أن تعيش في أمان داخل الأساطير التي تتمناها .

    مشاركة من Mamdouh Rizk ، من كتاب

    مكان جيد لسلحفاة محنطة

  • دائما كنت أفكر في أنه حتى الأحمق ، المغفل تماما كجوهرة نادرة بوسعه أن يمتلك لحظات من الصمت الغامض .. أن يراقب العالم بانتهاك خاص كأنه فريسته الخاضعة ، بشغف متحدٍ واثق في مهاراته الخبيثة على كسب كل المعارك حتى وإن خسرها .. يمكن لواحد مثلي أن يكون قبرا غير قابل لتوفير أي ثقة عن ما أُغلق عليه .. ألا يكون مفهوما أو مأمون التصرف ، ألا يتوقع ماذا يمكن أن ينتج عن جلوسه وحيدا بعينين متجهمتين وملامح مرهقة تتمعن في الفراغ بقلق ينطوي على تدبير ما .. كنت أفكر في أن الأحمق هو أكثر من تناسبه هذه الحالة باعتبارها ظاهريا سلوكا استثنائيا في حياته ، حقيقة مفاجئة لم يتعوّدها الآخرون عنه بل على العكس يستقر في يقينهم صورة مضادة لها بامتياز .. الأشخاص المعروفون بالدهاء وبالأساليب الملغزة والجريئة في إنجاح تجاربهم لا يمكنهم أن يخدعوا أو يصدموا أحدا إلا بممارسة تكشف عن الجانب الأحمق في شخصياتهم ، أما أنا فمع كل مرة أغلق فيها الباب على نفسي وأفكر في الماضي يتحول الإذلال إلى أقوى داعم لوجودي وتتحول كل خيباتي وإخفاقاتي الوفيرة إلى حصيلة من الانتصارات المبررة .. أشعر بنفسي كفارس كلاسيكي لديه ثأر مع الحياة يفوق ما لدى الناس جميعا ويمكنه أن يتحسس أثر شجاعته في الحروب غير المتكافئة ضد الغيب .. مع ذلك فالخوف أقوى من كل هذا .. أنا أحمق وخائف فقط .

    مشاركة من Mamdouh Rizk ، من كتاب

    مكان جيد لسلحفاة محنطة

  • أتخيّل لو كنا نحن الثلاثة أصدقاء .. كنا سنتفق على اشتغالات نضحك بها على الجميع داخل الوسط الأدبي .. نوزع أدواراً على أنفسنا، وننشر تدوينات، وموضوعات في الصحافة العربية بأسماء مستعارة عن شخصيات، وأحداث، وكتب وهمية، وتفشخنا القهقهات الشاخرة على التعليقات، وردود الأفعال .. ربما سيخرج من السيدة نون أثناء الضحك جيصاً ستعتذر في البداية مدعية أنه كان رغماً عنها، لكنها ستعقبه على الفور بواحدٍ آخر أكثر قوة حتى تزيد ضحكاتنا .. كنا سننتهز مشينا في وقت متأخر داخل شارع قاهري خالِ، شبه مظلم حتى أضاجعها أنا، والروائي الشاب الميت على الواقف في أحد أركانه .. سيكون في حقيبتها ـ بالصدفة ـ كتاب (المبتسرون)، وستكون به علامة عند الصفحة التي تقول فيها (أروى صالح): (من الأحاسيس الغريبة إللي بتلح عليا دلوقتي ـ ومش فاهمة طلعت منين ـ ومش قادرة أقاومها رغم ما فيها من قسوة، النفور من العواجيز! نفور أحياناً بيوصل لدرجة شعور جسدي بالاشمئزاز! باحس إنهم سُبّة في وجه الحياة، وبافتكر حاجة بشعة سمعتها عن تقليد ياباني، إن الناس لم تعجّز تأخذ قليل جداً من الزاد، وتطلع على قمة جبل، تستنى الموت فيه! .. غصب عني ابتديت أشوف فيها فكرة! وابتدِت تداعبني فكرة إني لما أوصل مرحلة معينة من العجز أنتحر)

    كنا سنُجبرها على خلع كلوتها في دورات مياه الأماكن التي تُقام فيها الندوات، ثم نشير لها به من وسط الجالسين، وهي تقرأ الشعر .. ما كنا سنسمح لها أن تُغلق على نفسها باب الحمام، وهي تقضي حاجتها، وكنا سنُبقيها عارية أمامنا تماماً طوال الوقت، لكننا كنا سنترك النظارة فقط على وجهها، وهي تُحدثنا عن البلاغة القديمة، وتاريخ الطبقة الوسطى، وصورة المرأة المصرية في سينما التسعينيات .. كنا سنكتب فقرات من كتاب (المثقفون) لـ (سيمون دي بوفوار) على جسمها، وكنت سأحب أن أكتب على بطنها: (وبقي في المطبخ بينما كنت أتعرّى. والتففت بين الأغطية، تحت الغطاء المكسيكي. كنت أسمعه يحوم، ينضد، يفتح ويغلق الخزانات، وكأننا زوجان منذ زمن طويل. بعد كثير وكثير من الليالي التي أمضيتها في غرف فنادق، في غرف أصدقاء، كان من المريح أن أشعر أنني في بيتي، في هذا الفراش الغريب عني. وكان الرجل الذي اخترته والذي اختارني يهم بالرقاد إلى جانبي)

    كنا سنأخذ كوب الشاي من يدها، وندخل به أنا، والروائي الشاب الميت بالدور إلى دورة مياه المقهى، ثم نعيده إليها حتى تشربه شاي بلبن .. كنا سنشترك في كتابة نص طويل عن شارع عماد الدين، و26 يوليو، وعبد الخالق ثروت، وجروبي، وريش، والأتيليه، وزهرة البستان، والجريون، والنادي اليوناني، ثم نخلق داخله نصاً آخراً افتراضياً يشارك فيه نجيب محفوظ، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، ويوسف إدريس، ونجيب سرور، وأحمد فؤاد نجم، وعبد الرحمن الأبنودي، وبعد ذلك لا يعجبنا فنمزقه، ونتخلى عن الفكرة .. كنا سنأخذ طفل شوارع إلى الشقة بعد أن نشتري له ملابس جديدة، ونقدم له الطعام، والشراب ثم نحدثه عن حرب الخليج، وحزب العمال الشيوعي، وأحمد عدوية، و8 يناير، والحشيش، والتيار الثوري، وما بعد الحداثة قبل أن ننهال عليه فجأة بالضرب، والشتائم، ونطرده .. كنا سنؤلف أغاني وطنية عن الخرتية، وعن الأجنبيات المتعطشات للقضيب الأدبي المصري، وعن الجبهة الشعرية للدفاع عن أزواج الشراميط .. كنت سأجننها بالتناقض بين كلامي، وحركاتي؛ أقول لها أنها دميمة، ومقرفة، وأنه لا يقف عليها إلا لطيبة بيضتيه، بينما يديّ تعريان جسمها، وتقطّعّان لحمها .. كانت أجمل لحظاتنا ستكون حينما تتمدد بيننا أنا، والروائي الشاب الميت على السرير، ونمارس العادة السرية في وقت واحد .. لا تنكري .. الآن تتخيلين كل هذا، وأنتِ تقرأين

  • كنت أُقدم الاستسلام، وربما التبعية كعربون ثقة ينتظر المقابل بالسماح لي بالسيطرة، ولم يكن ذلك جراء تخطيط، أو حسم ذهني للمقدمات، والنتائج، بل سلوك تلقائي، بديهي جداً، ليس فيه اختيار .. كأنه في طفولتي، وفي لحظة لا يمكنني تذكرها إطلاقاً استقر في داخلي يقين لا يمكن خدشه بأنه يمكن التحكم في العالم بواسطة الخضوع أولاً لديناصوراته، الذين سيقدّرون إخلاصك، ومسالمتك كقط أليف، قادر على حبس عنفه المتزايد؛ فيهبون أنفسهم في المقابل كتابعين لك .. أين كان يقع الخطأ؟!

  • بالقرب من هذه الحجرة .. كان هو جالسا في الشارع أسفل شرفة بيته القديم الذي لم يعد قادرا على رؤيته .. جاءه فجأة رجل عجوز منهك وضعيف البصر، وقال له أنه يبحث عن شخص كان يسكن في هذا الشارع ولا يعرف عنه شيئا منذ ثلاثين سنة .. كان كاذبا حينما ادعى للعجوز أنه يعرف من يبحث عنه .. أراد فقط أن يجلس العجوز بجواره ويتكلم معه .. أن يؤخر رحيله أطول وقت ممكن .

    مشاركة من Mamdouh Rizk ، من كتاب

    مكان جيد لسلحفاة محنطة

  • جاء في خبر وفاتها أيضا أنه في مذكراته المنشورة عام 1973 كتب الناشط الياباني والعضو السابق بـ ( المنظمة العالمية للسلام والتنمية البشرية ) التابعة للأمم المتحدة ( شينجي ميزونوما ) أن ( ماريا نكوبولوس ) اختارتها المنظمة لتكون سفيرا لها عام 1969 حينما كانت في العاشرة من عمرها ، وأنها سافرت في جولة حول العالم لنشر الرسائل الخيرية للمنظمة .. ذكر ( شينجي ) أنها في زيارتها لمصر التقت ( ماريا ) بالرئيس ( جمال عبد الناصر ) ، وبالمستشار ( حسن الهضيبي ) المرشد العام للإخوان المسلمين ، وبالبابا ( كيرلس السادس ) بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، وأنها اصطحبتهم إلى طريق مصر اسكندرية الصحراوي في الرابعة فجرا وبسرية تامة ؛ ليجربوا معها المشي بظهورهم في العراء ، وأنهم كانوا سعداء جدا بهذه المحاولة رغم فشلهم فيها .. نفس الأمر ـ والحديث لا يزال لـ ( شينجي ) ـ كررته ( ماريا ) مع الرئيس الأمريكي ( نيكسون ) ، والسوفيتي ( بودجورني ) ، والفرنسي ( بومبيدو ) ، و( فيصل ) ملك السعودية ، وجميعهم أيضا فشلوا في المشي بظهورهم .

    مشاركة من Mamdouh Rizk ، من كتاب

    مكان جيد لسلحفاة محنطة

  • كان يمكنني بمنتهى البساطة إخبارها بأنني أرسلت الرسالة دون أن أرسلها متحصنا بأي تبرير منطقي يمكنه أن يفسر فيما بعد عدم وصولها لحبيبها .. لكنني بمنتهى الطاعة والإحساس بالواجب وبحرص تام على الالتزام الحرفي كتبت الرسالة فورا وأرسلتها .. كان الامتثال التلقائي لطلب القاصة العربية بمثابة توجيه شكر وتقدير للغيب الذي قرر حمايتي من الاستمرار في السعي إليها دون أن يحملني مسؤلية التراجع أو يشعل بداخلي جروح الحسرة والخزي الناجمة عن الهروب بتحريض من الخوف .. أنقذني من الشعور التقليدي بالعجز والفشل الذي كنت على يقين بأن آلامه المعتادة تتجهز لتعذيبي من جديد في جميع الأحوال سواء طال الوقت دون أن أصل لجسد القاصة العربية ـ كما حدث مع جميع من حاولت الوصول إلى أجسادهن ـ أو حينما تأتي لأول مرة اللحظة الوحشية التي سيواجه عري كل منا الآخر وينجح اضطرابي الخجول ببراعة فريدة في تدمير العالم .. كتبت الرسالة كأنني اتحسس بفرح جدران الكوخ الصغير الذي انكمش متواريا بداخله غير مصدق أنني لازلت محتفظا به بعد أن كنت على وشك خسارته .. كمن يخفي باعتزازخبيث مكسبا غير متعمد أخبرت القاصة العربية بحماس واثق أنني أرسلت الرسالة ولم أخبرها أنني سأشاهد الليلة فيلما لنجمة البورنو (Jaylene Rio ) لأنها تشبهها كثيرا ، وأنني سأكتم صوت الفيلم لأستمع إلى ( كونشرتو براندنبورغ ) لـ ( باخ ) أثناء الفرجة والاستمناء .. لم أخبرها أنني سأكون سعيدا جدا .

    مشاركة من Mamdouh Rizk ، من كتاب

    مكان جيد لسلحفاة محنطة

  • مرايا

    إذا فتحت شرفتك في الصباح، ووجدت فوق أرضها ريشةً صغيرة. أرجوك لا تلقِ بها بعيدًا، هذه الريشة تخص طائرًا وحيدًا. ظل يغنِّي طوال الليل وراء الضلفتين المغلقتين، وحينما شعر بأنك لا تسمعه، أسقط ريشه من جناحه وحلَّق بعيدًا، هذا الطائر يفعل ذلك كل ليل، ولأشخاصٍ آخرين غيرك، حينما سيصبح بلا ريشٍ على الإطلاق لن يستطيع الطيران، وسيظل يغني واقفًا حتى يموت في مكانٍ لن يراه أحد، لكنك ستعلم بطريقةٍ ما أنه غادر العالم، حينئذٍ سيمكنك أن تخرج ريشته التي احتفظت بها، وتنظر إليها طويلاً لتكتشف إلى أي مدى يشبه الموتى بعضهم!

  • وجدت نفسي أرجع لأعماله الكاملة، وأقرأها مرة أخرى .. توقفت أمام النص الذي لم يضع عنواناً له، والذي بدأه في عامه الأول بـ ( باريس ) حيث تحدث ( عنها )، وعن ( الملاءة ) .. هل هي نفس الملاءة الشفافة في نصها عنه، التي ادّعت النوم، عارية تحتها لحظة وداعهما .. استرجعت بامتنان يومياته في المستشفى الفرنسي التي كان يُعالج فيها .. تفكك مكونات جسمه .. القتال لاستعادة الحياة، والكتابة .. انتبهت لعبارة كتبها عن السرتنة، والتفاعل مع صورة الفن التشكيلي .. بكاءه، وهو يتساءل لماذا يصاب بالسرطان في سن الشباب .. كان يفكر في الانتحار قبل المرض .. أصدقاءه، وعلاقتهم بمرضه .. عدم مسؤليته عن الماضي، وعدم ارتباط المرض بعلاقة منطقية مع ذلك الماضي .. زجاجة التبول البلاستيكية الموضوعة بجوار السرير .. العلاج الكيماوي .. ضوء سيارة ضعيف قادر على الصعود إلى حجرته مقابل احتياجه للأسانسير .. الدولاب، والشباك .. يد الممرضة التي كانت تجلس على الأرض بجوار سريره كي تشاركه الدموع.

    كنت أقرأ بألم، وغيرة .. بفرح، وخوف أنه مات .. أنا لا أعرفه، وعمري ما رأيته، ولا فرحتي بموته التي أصابتني تخصه هو، بل تخص الحياة، أو الخبرة التي عاشها، وسمحت له أن ينام، ويستمتع بامرأة كنت أجلس أمامها كرماد سيجارة أُلقي في بحر .. رغم أنني لو لم أكن أعرفها، وعبرت أمامي، وأنا جالس في مقهى مثلاً، أو مرّت بجواري، وأنا أسير في الشارع عمرها ما كانت لفتت نظري .. لكن المشكلة أنني أعرفها، وأعرف من هي بعيداً عن كونها أنثى .. هذه هي الجائزة الكبرى يا دكتور التي عرفت الآن ـ كأنني كنت ناقصاً ـ أن روائي شاب سبق، وحصل عليها بمنتهى البساطة، ليس هذا فقط، بل خُلّدت لحظة حصوله عليها في نص، حتى لو كان في سياق الكتابة عن موته أيضاً .. كأن الموت هو الثمن الذي كان يجب أن يدفعه ـ بالنسبة لي ـ طالما نام معها، وفي المقابل فإن استمراري في الحياة حتى الآن هي الهدية التي يجب أن تعوّضني عن عدم ركوبها.

    بين وقت وآخر أنظر في صورته المطبوعة على غلاف أعماله الكاملة .. أحدّق في عينيه، وأتخيله، وهو نائم معها .. أشعر كذلك بالرعب من موته، كأن المرض سينتقل إليّ من كثرة النظر في الصورة، والتفكير فيه .. كنت أرى في حياته القصيرة كل ما لم أقدر أن أجرّبه .. كل ما كنت أتمنى أن أعيشه.

1