عاش جدي رفيق باحثًا عن السلام طيلة حياته، فقد شهد بعد رحيل جدته هانم خوف والده سميح على الموريسكيين من غضب العين الراعية، رآه يبكي من أجلهم حتى كفَّ بصره ونحل عوده ولزم فراشه حتى مات، شهد حزن جمال ابن عمه فخري على ابنه عفيف بعدما علم أن العين الراعية غير راضية عنه، مؤمنًا بأنه لا ينبغي أن يجتمع ظلمان على قلب رجل، فلما طمع عفيف في مصنع الزجاج تركه له، محذرًا إياه من أن يطغى ذات يوم على ميراث أخيه أسعد، فلما صودر المصنع منهما احتضن رفيق الأخير، وزوجه ابنته نجاة، واعدًا إياه بتقسيم ثروته ما بينه وبين ابنه يوسف، فلما مات أسعد ونجاة حمل ابنيهما ناريمان ووديع وجلس يبكي بكاء اليتيم، لكنه كان يوقن في قرارة نفسه أن عفيف ظُلم بمصادرة المصنع، وأنه لم يحصل على ميراثه من أبيه؛ لذا لم يعارضه حين جاءه طالبًا أبناء أخيه منه، كان يعلم أنه ما جاء من أجل ذلك، وأنه مهما حصل على مال فإن العين الراعية لن تتركه يتمتع به؛ فباع حديقة البيت الكبيرة لرجل أعمال أقام عليها «مولًا»، وأعطاه ثمنها مع ناريمان ووديع كشفعاء له، عسى أن يخففا من غضب العين الراعية عليه، وظل واقفًا على قدميه في مواجهة الخطوب حتى رحل ابنه يوسف، فظل يبكي حتى كفَّ بصره، ولزم غرفته لا يخرج منها حتى أيقن بالرحيل، حينها نادى عليَّ قائلًا: «يا مراد.. أبلغ أعمامك أنني أحتضر»، فهرعت أطرق الأبواب بقوة المستجير من رخ عظيم سيحط بجناحيه الكبيرين على البيت العتيق، كنت أطرق الأبواب بكل ما لديَّ من قوة لطرده: «جدي يحتضر.. جدي يحتضر»، هكذا كنت أصرخ، وأقدامي تركل الدرجات تلو الدرجات، حتى انتقل خوفي إلى صدورهم، فرأيتهم يهرعون بملابس نومهم كأن السماء ستنطبق على الأرض، أو أن الطائر الخرافي سينحني ليتخطفهم من غرفهم، ولا ملاذ لهم سوى حجرة الجد، حين وصلوا وجدوه جالسًا في أزهى ثيابه، متعطرًا بالمسك والريحان، فتعجبوا من نضارة وجهه وبهاء طلعته، هو بدوره ابتسم في وجههم وأخذ يحكي رحلة جده يونس بن محمد بن عبد الله من بلاد المغرب إلى حومة الأندلس بتونس الخضراء قائلًا: «كونوا كمَن تبعوه في رحلته، غير عابئين إلا برضاه عنهم، موقنين أن عينهم الراعية تسير في معيته لمحاربة اللصوص وزجر الضواري، منقذة لهم من قسوة الخوف على الأرواح، وبأس الجوع على الأبدان. من تطوان البعيدة بدأ وبالجزائر غير المأمونة مرَّ، وعلى هوامش بيوت الناس في بنزرت قال انزلوا فلا باي الجزائر يأخذكم لمحاربة السعديين، ولا السعديون في المغرب يقذفون بكم في هجير الصحراء لمحاربة أسودها، كونوا خلف عميدكم من بعدي كما كان أجدادكم خلف يونس في ترحاله وظلمته، فإن قال انزلوا بأرض فاعلموا أنه مأمور بها، وإن قال اخرجوا منها فاعلموا أن سيف العين الراعية يشير إلى غيرها، تعلموا الصمت أكثر من الكلام، فإن ارتبتم في شيء فردوه إلى عميدكم، واعلموا أن التيه خلف العميد أكثر رضا للعين الراعية من الخروج عليه».
مشاركة من المغربية
، من كتاب