النسخة الإسلامية البديعة من رواية الجذور ولكن بشكل أنقى وأكثر بهاء وتفاؤلاً وحكمة وبداعة في الوصف والتعبير.
تتشابه القصص وتختلف التفاصيل وردود أفعال الشخصيات لما يحدث لهم. تخيلت كونتا كونتي وعمر بن سيد يركبان نفس السفينة التي أبحرت بهم نحو شاطئ الغرب المظلم، وأتخيل طرقهما قد تقاطعت في مرحلة ما دون أن يدري أي منهما بقصة الآخر، وأخال القصتين وجهان لما يمكن أن يختصر القصة الكاملة لهؤلاء الذين اختطفوا ليكونوا عبيداً للسيد الأبيض.
في قصة الجذور نرى اليأس والاستسلام قد أخذا مأخذهما من الرواية حتى طغيا على شعورها العام، أما هنا فرغم كل المآسي والأوجاع التي مر بها، إلا أن ثقة عمر بن سيد بربه وبحكمة الله من ابتلاءه واضطرام روح الحرية دون أن تخبو يوماً جعلا من تجربة السيد عمر مثالاً يحتذى به للصبر والعمل والتفاؤل ورفض تسليم الروح إلى براثن أي شيء سوى الأمل بالله.
فكانت هذه القصة رغم تفاصيلها تثير في القارئ شعور الفخر والاعتزاز بالسيد عمر (وهو سيد، وهو حر، لم يكن عبداً ولو ليوم رغم كل شيء، وسيبقى كذلك ما دام هو نفسه قد اختار لروحه ان تبقى حرة لا تٌستعبد سوى لخالقها) فقد كان مثال المسلم الملتزم القابض على جمر دينه في مكان كان فيه هو وحده الممثل لهذا الدين، وكان أمة وحده.
في رواية الجذور كنت أبكي للأهوال ولشخصية البطل التي تحطمت تحت براثن العبودية جيلاً إثر آخر، أما هنا فقد لازمتني الغصة ولكن الدمع أبى أن ينهمر لفخري بالقراءة عن شخصية كهذه ولعجبي من قدرته على المحاربة على كل الجبهات وعلى البقاء رغم أنوف الجميع.
كان السيد عمر يشفى من كل جرح لأنه كان قوياً، قوياً بدينه وبربه وبعزته كمسلم تأنف نفسه العبودية لغير الله، وتأبى روحه الاستسلام تحت أي ظرف.
أن تدعو للإسلام بحرقة في قبو سفينة لا تستطيع فيه وقوفاً ولا حتى جلوساً، وأن تتحدى الجميع وتصدح بالآذان على ظهرها وتقيم صلاتك رغماً عن الجميع، وان تصدح بالحق في كل ظرف حتى مع المكاره، وأن تعلّم وتتعلم ما دام فيك عرق ينبض، وأن تحرر بدعوتك ونضالك الكثير من الأرواح المستعبدة، وأن تأبى إلا أن تستمر حتى ترى أثار ما فعلت على الآخرين، وأن تؤثر غيرك على نفسك وفاءً لجميل أو لمجرد مشاركتك آلامهم لهو شيء يعجز عن بعضه الكثيرون، فما بالنا بكله!
لازمني طوال قراءتي شعور بالضآلة، ضآلة جهودي، ضآلة ما أدعي أنه معاناة أو مشكلات، ضآلة حجمي أمام عملاق كهذا، وضآلة علمي وعملي بما علمت وسعيي لنشر علمي. رغم المعاناة كانت تجربة السيد عمر ملهمة إلى أبعد حد وتدعو لإعادة النظر مرة ومرتين وعشراً قبل التذمر مما أعيشه وقبل نكران النعم التي تغمر حياتي، ولإعادة النظر فيما أستطيع فعله ولا أفعله بدافع الكسل والفراغ فقط.
لن أذكر التفاصيل، لأن الرواية ملئى بكل ألوان القهر والمعاناة والكفاح والأمل والعزيمة بشكل يجعل من احتواءها في مراجعة أمراً يصعب القيام به.
كنت أحاول عدم إفلات الرواية من يدي وفي نفس الوقت كنت أحاول التهام أكبر عدد من صفحاتها في كل جلسة، ومع هذا التخبط أنهيتها في ثلاثة أيام. أنهيتها وبكى قلبي حسرة وأسى لحال السيد عمر ولحال مئات الآلاف غيره ممن لم يسعفهم الزمن برواية آلامهم لأحد، فماتوا وماتت معهم أوجاعهم وبقي تعويض أيامهم والانتقام لمن تسبب لهم بها بين يدي ربهم أجمعين.
ولكن على الرغم من كل شيء، لم أستغرب من تفاصيل قصة السيد عمر، فقد بت اليوم أتوقع أي شيء من أي كائن ينتمي إلى جنس البشر. فقد أتت هذه المذكرات بعد قراءة رواية بيت خالتي لاحمد خيري العمري والتي تحكي بشاعة البشر في واقعنا اليوم، وبعد قراءة كتاب امريكا والإبادات الثقافية لمنير العكش والتي تصف بشاعة البشر في التاريخ الحديث، وأثناء قراءة كتاب
Less than Human
والذي يشرح التفسير العلمي لارتكاب البشر للمجازر وقدرتهم على قتل بعضهم بعضاً بكل برود، مثمثلاً ببشاعة البشر على مر التاريخ كله. فجاءت هذه الرواية تأكيداً لهذه البشاعة وتصويراً لشناعة تاريخنا الأسود. لذلك، لم يكن في الرواية ما يدعو للعجب بالنسبة لي، فقد بت اليوم أكثر وعياً لهول ما نقدر عليه.
أنهيت الرواية وفي ذهني أسئلة كثيرة أجابني عنها العتوم في الصحفات الأخيرة، ففرحت لتلك التفاصيل ولتبيني أن رؤى السيد عمر كانت حقاً لا مجازاً وبأن ما بشره الله به في أحلامه كان واقعاً. وكم تأثرت لقراءتي أن السيد عمر قد جاء العتوم في منامه طالباً منه إخراج حياته إلى النور، فانتابني إحساس بحاجته لمن يذكره. أنهيت كلماته الأخيرة وفي عيني دمعة أبت أن تنزل وآثرت الجثوم على صدري بطريقة مؤلمة (بالمعنى الحرفي للكلمة، لا المجازي). أحسست بألم وغصة لقصته، فلم يكن من أمري إلا أن اتجهت لأصلي، ودعوت له طويلاً وبحرقة في سجودي أن يسبغ الله عليه رحمته ويعوضه عن آلامه ويجزيه أجر صبره وجهده منازل أعلى وأعلى في الجنة تنسيه كل ما قد فات. لم أدر إن كان هو من يحتاج الدعاء أم أنا التي لم أفعل شيئاً في حياتي في سبيل أي شيء سوى نفسي.
أحببت الرواية أيما محبة، وأبحرت في بهاء اللغة الفصحى تماماً كحالي مع رواية أنا يوسف للعتوم وأحسستهما كلاً واحداً. لا أستطيع أن أصف الرواية بالـ"جميلة" بالمعنى الذي نعرفه، فلم يكن في تفاصيل آلامها نفحة من جمال، ولكنني أصفها بالملهمة، المعبرة، القوية، الفصيحة، وبالتي يبقى أثرها طويلاً في النفس حتى تغدو مما يجدر بالقارئ برأيي أن يعود إليه كل فترة ليستذكر آلام الآخرين ونعم الله عليه والمعنى الحقيقي لصفات البذل والجهد والعمل دون القول، مجسدة في قصة عالمنا عمر بن سيد.
مأخذي الوحيد على هذا الكتاب كان وجود بعض الألفاظ والتعابير التي لم أستسغها والتي لم نعتدها من العتوم بهذه الصراحة والمباشرة، فعسى لو تخفف أو تزال في الطبعات القادمة حتى تصلح القصة ليقرأها الجميع.