( كنا حينها في منزله ، و الذي يطلُّ على أكبر " مقبرة " في المدينة )
هل مرَّت عليك كلمة مقبرة بسلاسة ؟
أنت مخطئ ، فالمقبرة المقصودة ليست ما تظنُّ .
فهي عبارة عن منفى ، و المنفى لا يحترم رغبة الإنسان بالوجود ، المقبرة وحدها من توفِّر لك موتًا هانئًا في ظلِّ الهدوء الذي يغزوها ، و الرعب الذي لا يفارقها ، موت يربِّت على قلبك بيد خشنة أن فلتهدأ ثورة الحيوات الفانية التي فَنَت من داخلك ، و مرحبًا بك في عالم البرزخ ، فُكَّ حزام الأمان و انتظر حتى يفنى الباقون كي تخلُد .
" كنتُ أعلم أنه لن ينتحر ، لكن ما فعله أسوأ بكثير "
هل كنتَ طيبًا كفاية كي تتفاجأ من ان الإنتحار كان أفضل ؟
كلا يا أيها العزيز ، ما كان كلاهما أهون من الآخر .
كان ينتحر بطريقة أسوأ ، بطريقة أشدُّ دمارًا ، انتحار أمان الإيمان بالداخل ، مُلحِد ؟
أنت مخطئ ، ربما كان مجنون ، على أيَّة حال الجنون يحترم الحياة فيمضي بها على طريقته ، بخلاف الميِّتون الماضون على سطح هذه الأرض بدون هدى ، هنا و هناك يترنَّحون ، يدورون حول أنفسهم بدون وقفات استراحة ، كعقارب ساعة ، كدورة نهار ثم ليل ، شيء رهيب إذ أنهم لا يكادون يتماشون مع النهار حتى يسقطون في قبضة الليل ، و ما إن تسكن نفوسهم عند الغسق إذ يقبل شفق أحمر يشبه الفاجعة ، فتثور حيواتهم بداخلهم و يموتون .
يموتون باستمرار ، على الأقل ثلاث مرَّات عند فكرة واحدة ، واحدة للخوف ، و واحدة للحياة ، و واحدة للألم !
لا تستهن .
ماذا كان ذلك ؟!
احتراق ذراع يُسراوية ؟
وجه مقسوم إلى نصفين ؟
انتحار على أجفان الآخرين ؟
بقايا بقايا ، شظايا ، شجون ..
رواية " سياحة إجبارية " للكاتب محمد طارق الموصلي .
رواية خطيرة تدور في الجحيم .. عفوًا .
حيثُ يجب أن يكون الآخرين من عين شخص قيد الإنتحار .
محاولة الإنتحار .
الإنتحار يعني نهاية ، بينما محاولة الإنتحار تعني منتصف لا ينتهي .
السور الذي وقف عليه كي يقفز لم يكن عابرًا ، كان منتصف ، كان يجب أن ينتهي أو يبدأ من جديد .
الرسائل شعار المنتحرون ، مع كامل الأسى هم يظنُّون أننا نحتاجها ، يكتبون بدون قلق ، بدون خجل ، بدون أي قيود ، أليسوا راحلين ؟
الرواية تحتاج قراءة 3 مرَّات أو أكثر ، ذكَّرتني بأسلوب أحلام مستغانمي في " عابر سرير " ، بيد أني أقف حائرة عاجزة عن إعطاء وصف حقيقي لها ككل .
رواية للوطن و غربة النازحين ؟
رواية للدين حيثُ يكون الملحدين ؟
أم أنَّها رواية للميِّتين الذين على صفحة الأرض ماضين ؟
الأدهى أنَّها واقع !
و هذا ما جعل قلبي يطمئنَّ إذ أن الواقع دومًا كان سقطة في اللاحقيقي ، نقطة في الخيال غارقة .
الواقع دومًا خيالي ، لكنَّنا ما آمنَّا بذلك يومًا لأننا فيه ، هل نحن خيال أيضًا ؟ الأحرى أنَّا فانون و لربما في الفناء تكمُن خيالية هذه الحياة الفانية .
في رأيي " سياحة إجبارية " لا يمكن أن تمرَّ مرور الكرام ، علينا الوقوف بين صفحاتها طويلًا ، و أن نُطالب بنسخة محدَّثة منها ، و مقدِّمة و مُلحق و كوم إجابات بدون أسئلة ، " أقف طويلًا أما تحديد السؤال ، و كيف أمتلك إجابة إن اختفى السؤال أصلًا " !!