random
أخبار ساخنة

مُراجعة رواية "أفراح القُبّة" - نجيب محفوظ

    



    

إن العلاقات بين البشر شيء مُتداخل حد التشابك. تتباين الانفعالات رغم أن الموقف واحد! فتهيج نفوس وتسكن أخرى. وتبغض قلوب وتعشق أخرى، وتُحترَم نفوسٌ وتُحتقَر أخرى.

    

إننا نرى أفعالنا بشكل أجمل من الحقيقة. نُبرر أفعالنا، نُخفف وطأتها، لكن الآخرين لا يفعلون ذلك، بل يرونها جافة، حادة، صارخة.

من المُخطئ ومن على صواب؟ وهل هناك درجات مُختلفة للحق؟ وهل يختلف حكمنا على المُخطئ إن كان غير مُتعمِّد؟


هل من الممكن أن نكره أنفسنا إن شاهدنا أفعالنا في عيون الآخرين؟ هل لدينا الجرأة على تحمّل الصدمة؟

      

في رواية مسرحية من الطراز الأول يكتب نجيب محفوظ عملًا أدبيًا عميقًا، يزرع فيه الرمزية لتطرح في داخل كل قارئ شجرة من الظنون والتأويلات المُحتمَلة. قد يكون السرد الأدبي غير مُتماسك، لكن الحوار المُبهر يفرض سطوته على القارئ فلا يدع أمامه سوى الدهشة والتفكير والخوف المُغلّف بتقزّز لازم!

 

حدث واحد وأربع زوايا. الكل ضحية والكل مُتهم، والجميع يبحث عن أسلوب يناسبه للهرب من حياة بائسة. تتعدد الاختيارات وتختلف النتائج، لكن العدل لم يكن إحداها!

       



  

     

عباس كرم يونس

  

" إني أدمن الحُلم كما يدمن أبي الأفيون."

  

هكذا يصف عباس مُعاناته في مأساة شبيهة بمأساة دون كيخوطي (دون كيشوت) لكن على الطريقة المصرية. إن كانت الروايات وما فيها من مثالية هي ما أصابت دون كيخوطي بالجنون، فإن الطيبة وحُسن الظن ونقاء النفس هو ما شكّلت التراجيديا في حياة عباس!

كان عباس الملاك المُنقذ بوصف حليمة أمّه. والمثالي بوصف أبيه كرم يونس. كان الطُهر وسط كل الدنس الذي ترعرع فيه. إن عبّاس كان يُمثّل غيمة الأمل المُمطرة التي تمنى نجيب محفوظ قدومها لتمحي كل آثار الفساد والفقر والقمع والعهر والعفن والانتهازية. وهو حلم التغيير لزمن ما بعد النكسة التي ضربت المجتمع بأكمله في مقتل.

   

"بالحلم أغيّر كل شيء وأخلقه. أكنس سوق الظلط وأرشه، أجفف طفح المجاري، أهدم البيوت القديمة وأقيم مكانها عمارات شاهقة، أهذب الشرطي، أسمو بسلوك الطلاب والمدرسين، أوفر الطعام من الهواء، أمحق المخدرات والخمر."

   

إنه الحلم بالإصلاح الأخلاقي والاجتماعي والسياسي أيضًا. لكن عباس؛ العاجز عن تغيير الواقع البشع من حوله، قرر أن يستخدم موطن قوته الوحيد؛ الكتابة.

 

كانت الكتابة سلاحه والمسرح عالمه، وبالحقيقة كان انتقامه!

 

انتقم عباس من الجميع ومن كل من يعمل في المسرح بعرض المسرحية التي تفضحهم. كان يدرك أنهم لن يرفضوا مسرحيته، حتى وإن كانت فيها هلاكهم. يعرف أن شهوة الشُهرة ستسيّطر عليهم، وأن شهوة المكسب ستغري الهلالي الرأسمالي بإجبار الجميع على الموافقة؛ تمامًا مثلما كان يجبرهم دومًا عليها!

 

بعد العرض؛ أدرك نجاحه الذي صنعته نفوسهم الفاسدة!

 

    

كرم يونس

  


"حيّ يُمارس هوايته في إتعاس البشر" هكذا وصفته حليمة زوجته. لكن إن دققنا النظر في شخصية كرم ستحد أن حليمة لم تكن مُنصفة! 

   

في الواقع أن كرم لا يتعس الآخرين، لا يتسبب في أذيتهم. لكنه كان يفعل شيء واحد يتسبب في سخطهم وحنقهم وتعاستهم. فقط كان يُذكّرهم بحقيقتهم، كصورة مرآة فاضحة لكل ما يريدون إخفاءه. عرايا بذنوبهم وقذارتهم وعفنهم. سالبًا منهم أي محاولة للاختباء وراء قناع مزُيف اسمه الفضيلة.

     

"ما الفضيلة إلا شعار كاذب يتردد في المسرح والجامع."

   

هكذا نرى كُفر كرم يونس بالفضيلة منذ أن وعى على أمه وما فعلته. كان كرم أكثر الشخصيات وضوحًا وصدقًا في الرواية. كان أمينًا مع نفسه ومع من حوله! يرى الآخرين منافقين يُظهرون ما ليس في قلوبهم، ويتلوّنون من أجل الوصول إلى مآربهم. هم لا يختلفون كثيرًا عن كرم البتّة، لكنهم مخادعين يكذبون حتى على أنفسهم، لهذا كان يحتقرهم.

 

"كان مثاليًا كأنه ابن حرام!"

       

سلّم كرم بضرورة التعايش والتكيّف مع قتل النخوة والمروءة والرجولة داخله؛ كضرورة حتمية لكسب الرزق؛ والاستمرار في الحياة. تشوّهت داخله كل المفاهيم وانقلبت تمامًا إلى النقيض، حتى صارت المثالية في عُرفِه تُهمة يرميها على ابنه كسُبّة حقيرة! 

 

وكمُفارقة ساخرة؛ نغّصت مثالية عباس حياة كرم،لأنها كانت الدليل الوحيد على خِسّته!

    

      

حليمة الكبش

    

"لا علاقة بدوري في المسرحية وبين الحقيقة." 

 

"لِم لا نُسجّل اللحظات السعيدة لنُصدّقها فيما بعد؟"

  

حليمة التي تصارع ما بين صورتها في عين ابنها، وبين حقيقة نفسها التي تعرفها. حالة إنكار للحقيقة واضحة، وصدمة بسبب جزء نسجته كل الخطايا التي لم ترتكبها فصدّقها ابنها، بينما غفرها جميعًا لتحيّة!

 

هل كانت خطيئتها أنها صارعت كي تجعل ابنها ملاكًا؟ كيف يمكن له أن يصنع منها شيطانًا، وهي التي حمته من شياطين الإنس من حولها. طال انتظارها لتهرب معه إلى حياة جديدة تحت كنفه، إلا أنه فاجأها بأن آخر أحلامها صار وهمًا.

  

كيف يمكنه أن يزرع خنجر الغدر في قلبها؟ أيمكن لملاك فعل ذلك؟!

 

 

طارق رمضان

     

"لأول مرة في حياتي تختم مواقفي بالتصفيق"

   

التناقض يمشي على قدمين! يُحب تحيّة ويقهرها. يهينها ويضربها، ثم يبكي على فراقها كالأطفال. يعيش على عرق النساء ولا يجد في ذلك عيبًا. لكن هكذا تحولّات لا تحدث بين ليلة وضحاها، انزلق طارق تدريجيًا عبر حياته حتى وصل إلى هذه الدرجة من الحقارة. حين عُرِض دوره في المسرحية استعذب ما قام به مُستشهدًا بتصفيق الجماهير! عجيب أمر موت الضمير وخسران النفس.

   

"أحيانًا يُخيّل لي أن الله موجود"

  

عندما يسقط المرء في هوّة نفسه الخاوية، ويصل إلى دركها الأسفل وسط كل الموبقات؛ فلا يجد سوى الظلام، كيف يُمكن حينها أن يرى نور الله؟!

 

  

 التقييم النهائي

       

أفراح القًبّة رواية مسرحية قصيرة ممتازة، برع فيها نجيب محفوظ في تجسيد فساد النفس وخراب الروح وموت الضمير، وسط مجتمع غارقٌ في الهزيمة.

  

قد تكون رواية عن الأمل الذي لن يأتي. أو لعلّه قد أتى في غفلة من المجتمع!

 

تقييمي للرواية 4 من 5


 

أحمد فؤاد

6 أيلول سبتمبر  2020

google-playkhamsatmostaqltradent