توفيق البوركي
توفيق البوركي
عبّر قائلًا

لا أحد يكاتب الكولونيل
بقلم: الكاتب والصحفي سعيد الباز

انتهى زمن الرسائل.
انتهى زمن الطوابع البريدية، وسعاة البريد، والأظرفة الحاملة لعناوين المدن والبلدان. ولم تتبق في الصناديق المثبتة على ظهر الأبواب سوى الرسائل البنكية في آخر الشهر وفواتير الماء والكهرباء. انتهى زمن كامل استغنينا فيه عن متعة الكتابة بتأنق وعناية بالرسائل الإليكترونية السريعة والمشفرة أحيانا .والآن، نشبه كثيرا بطل رواية الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، ذلك الكولونيل العجوز والمعدم الذي يلازم مصلحة البريد والسؤال الدائم عن الرسالة التي ينتظرها بفارغ الصبر والتي ستخبره بقرب صرف معاشه، لكنه في كل مرة يعود خالي الوفاض. تتردد في أسماعه عبارة موظف البريد: «لا أحد يكاتب الكولونيل».
نحن الآن لا يكاتبنا أحد، ولا ننتظر تلك الرسالة التي سنفتح مظروفها بعناية فائقة، ونحن نرتشف جرعات خفيفة من قهوة الصباح. الرسائل الشخصية مصيرها اليوم إما المتاحف غير الموجودة للأسف في بلادنا، وإما تلك الصناديق الكارتونية الموضوعة بإهمال واضح في الجانب الأكثر عتمة من دولاب غرفة النوم. الخسارة الكبرى هي الأدب الذي كان لا يخفي ومنذ القديم عشقه الدائم والأبدي لفن كتابة الرسائل. كيف ننسى رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران التي كشفت جوانب شخصية وإنسانية للكاتبين معا، إضافة إلى روعة أسلوبهما وعمق تفكيرهما. كيف ننسى رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان وما احتوته من أسرار خاصة بهذا المبدع والمناضل الفلسطيني الذي لم نكتشف بعد أصالته الإبداعية التي ترقى به إلى مصاف كتاب عالميين، لولا حصار الترجمة الذي طال معظم أعماله. كيف ننسى الرسائل المتبادلة بين الشاعر الفلسطيني محمود درويش ورفيقه سميح القاسم في احتفائهما بذاكرتهما المشتركة، واسترجاعهما لحظات البداية وتفاصيل حياتهما الشعرية. رسائل تفيض بالحنين إلى الأرض والمكان، يتخللها دائما ذلك التفكير في الإنسان والهوية المستحيلة، والواقع العربي المزري.
في المغرب لا يمكن أن ننسى الرسائل المتبادلة بين الكاتب المغربي محمد برادة ومحمد شكرى التي تمتعنا بنماذج منها في جريدة الأخبار. رسائل تلقي الضوء على الكثير من التفاصيل والأسرار كذلك، التي واكبت صدور أعمالهما، وخلفيات بعض المواقف والأحداث. لكنها أظهرت وبوضوح كبير كيف صنع محمد شكري على الخصوص مساره الأدبي والإبداعي الفريد من نوعه، كيف كافح بعناد إدمانه وميله إلى التسكع وكسل اللحظة، كيف واجه الفقر والحاجة الملحة للمال رغم النجاح والصيت العالمي. في رسائل محمد شكري أيضا جانب آخر من شخصيته الأدبية يظهر من خلال تنوع وغزارة قراءاته، وذكاء استشهاداته من الأدب العالمي فضلا عن أحكامه الأدبية العميقة. إن الصورة التي تخلفها رسائل محمد شكري لدى القارئ أننا أمام كاتب حقيقي متمكن جيدا من قدراته العالية في الكتابة يشحن جملته السريعة والخاطفة بمواد يستمدها من حياته ومعاناته الشخصية تسمح له بأن يستميلنا إلى عوالمه. يكتب مثلا عن الصداقة والنكران: «من تنكر لي من الرجال أكثر ممن تنكر لي من النساء» أو عن تجربة الحياة والكتابة: «من لم ينغمس في دم الحياة لا يحق له أن يتكلم عن الجرح» وأخيرا حين ينظر إلى الوراء في زمن الشيخوخة ويتأمل علاقاته النسائية، وبكل حكمة ووقار شديدين يقول: «ما ربحته منهن، هو أني أصبحت تاريخهن».
خسارتنا في الأدب المغربي بخصوص فن كتابة الرسائل، ستكون عظيمة ولا ريب، فالكثير من كتابنا لا ينشرون رسائلهم. مما يعرض للضياع إرثا ثقافيا مهما في قيمته الأدبية والتاريخية. وسيأتي يوم نبحث فيه عن وسيلة لترميم ذاكرتنا الأدبية فلا نجد سوى الخواء، ونستسلم طواعية لغدر الزمان. الغدر الذي أبانه شاعرنا المنسي أحمد بركات:
نقسم القليل على الكثير
والكثير على القليل
والباقي
نطعم الذئب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جريدة الأخبار (المغرب)

3 يوافقون
2 تعليقات